الخميس، 22 مايو 2008

لك الله يا حقوق الإنسان


بقلم الدكتور على جمعة

مفتى الديار المصرية

كتب المفكر العربى أستاذ الكبير زكى نجيب محمود مقالة تحت عنوان (لك الله يا علوم الإنسان) نعى فيها على من يحاول أن يؤصل بيظرة إيمانية للدخول فى دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهى النظرة التى شاعت فى الحقيقة فى مدرسة إسلامية المعرفة أو التأصيل الاسلامى للمعرفة وشاعت أيضا وبصورة مختلفة بعد كتابات (ماكس فيبر) حول الأخلاق البروتستانتية ثم فى كتابات كثيرة فى الاقتصاد باعتباره من علوم الإنسان من مدخل قيمى أى أن القيم تسيطر عليه. وبغض النظر عن موقفنا من فكر الراحل العالمة زكى نجيب محمود ومساحات الاشتراك والاختلاف معه ومع مراحل تفكيره وعطائه بدءا من تسمية كتابه (خرافة الميتافيزيقيا) وانتهاء بتغيير اسمه الى (موقف من الميتافيزيقيا) أو المقالات التى كتبها فى الأهرام فى نهاية حياته مدافعا عن الثقافة العربية. بغض النظر عن ذلك فقد سمحت لنفسى أن أستعير عنوان مقاله مع تغيير الموضوع من علوم الإنسان إلى حقوق الإنسان ولعل هذا المقال يكون استمرارا لمقالى السابق (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).

1- يشغل العالم الغربى نفسه منذ فترة ليست بالقصيرة بمسألة حقوق الإنسان فمنذ الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة سنة 1947 وحتى اليوم وهناك اهتمام عالمى بهذه المسألة وصدرت وثائق ومعاهدات واتفاقات حول هذه المسألة بخلاف عشرات الآلاف من الدراسات بلغات الدنيا المختلفة ونشأت هيئات وجمعيات غير حكومية وحكومية لرعاية حقوق الإنسان وحفظ كرامته ولقد اهتم المسلمون بهذه المسألة اهتماما بالغا فمما قالوه ونفذوه فى حضارتهم (الإنسان قبل البنيان) و(تربية الساجد قبل بناء المساجد) ولذلك اهتموا أن تذهب الرعاية إلى الإنسان وأن تزيين البنيان يأتى فى المرتبة الثانية بعد اكتفاء الإنسان، والقيام بجميع شئونه وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا” [ أحمد والبخارى والترمذى] فيمكن للمسلم وقد كلف بخمس صلوات فى اليوم والليلة أن يصلى حيثما أدركته الصلاة فى أى مكان فى الأرض بل إن اتصال الإنسان بهذه الأرض التى يسجد عليها لله لم يقتصر على ذلك بل امتد إلى استعمال ترابها فى التيمم الذى هو بديل عن الماء إذا فقده المصلى فالماء به الاغتسال والوضوء فإن فقدناه استعملنا الأرض بديلا عنه وكأن فى ذلك إشارة إلى البداية والنهاية أما البداية {وجعلنا من الماء كل شيء حى أفلا يؤمنون} [الأنبياء: 30] وأما النهاية {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55].

2- واهتم الإسلام والمسلمون بالإنسان فمقاصد الشريعة التى خاطبته والتى يخاطب بها الناس أجمعون وتتجاوز الزمان والمكان فى جميع الأحوال خمسة حفظ النفس: حتى تقوم حية قابلة للخطاب. وحفظ العقل: وعدم الاعتداء عليه بأى تسلط أو إكراه بل هناك حفظ عليه فى أساسه وحفظ عليه فى منهج تفكيره وحفظ عليه فى حريته وإبداعه حتى فى مسائل الإيمان قال تعالى {لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى} [البقرة: 256] و{لكم دينكم ولى دين} [الكافرون: 6] و{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] بالإضافة الى حفظه بتحريم كل مسكر ومفتر قال تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البقرة: 219] وعن أم سلمة رضى الله عنها “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر” [أحمد وأبو داود]. وحفظ الدين: فإن الله يحب المتقين والصابرين والمتوكلين والمحسنين ولا يحب المفسدين ولا المتكبرين والخائنين “ويحب ولا يحب” هى دستور الإنسان الحضارى. وحفظ كرامة الإنسان: التى سميت فى تراثنا بالعرض ولقد أحيط بسياج كبير من الضمانات حرمت الاحتجاز القسرى والاعتقال العشوائى والتعذيب للمتهم وحرمت السب والقذف والتهام المسبل عن الدليل وحرمت التفرقة العنصرية بكافة أشكالها وغير ذلك كثير من حفظ حقوق الإنسان فى كرامته. واهتم المسلمون بحفظ ملك الإنسان وحرمة الاعتداء على ماله واغتصاب حقه وجعل هذا من الكبائر التى تهدم الاجتماع البشرى. ومن كل هذا بنيت الحضارة الإسلامية على مؤسسة القضاء.

3- وحقوق الإنسان التى نقشت على جدران الأمم المتحدة فى مدخلها – والتى نرجو من الله ألا تكون قد نقشت على الحجر ثم حرموها البشر- وافق عليها المسلمون فى العصر الحديث كما وافقوا على كل دعوة إلى الخير وعلى كل اتفاق على الرشد (كما وافقوا كذلك على إلغاء الرق) ورأوا فيها مشتركا يمكن أن يتفق عليه الناس ويعيشوا فيما بينهم بسلام. ولكن من غير تأسيس نظرى واضح المعالم رأينا من يحشر حقوقا مدعاة للإنسان لم يتفق عليه البشر أما ما لم يتفق عليه البشر فإنه لا عبرة فيه وهو ما زال يمثل ثقافة سائدة عند من اخترعه أو وافق عليه، وهذه الحجة يجب ألا تغيب فى ظل ارتفاع الأصوات والضجيج والغوغائية التى أصبحت هى السمة الغالبة فى الناس بعد أن تأخر التفكير عن النشاط كما يقول (رينيه جونو) المفكر والفيلسوف الفرنسى وهو يتأمل فى تدهور الحالة الفكرية لعموم العالم أين (مونيسيكو ولوك وسبنسر وفولتير وجان جاك روسو هيوم) فقد كانوا يتكلمون بشيء قابل للبحث والمناقشة وعرضوا أفكارهم بطريقة لافتة للنظر مع رفضنا لكثير مما ذهبوا إليه ولكن يبدو أن عدوا عاقلا خير ألف مرة من صديق جاهل.

4- من أين سرت لحقوق الإنسان قضية الشذوذ الجنسى من الذى جعل الشذوذ المقرف المخالف لكل دين على وجه الأرض عرفته البشرية المسبب لدخول الإنسان فى حياته جحيما لا يستطيع الفكاك منه ونارا لا يستطيع أن يخرج منها فيصاب بالاكتئاب والأمراض؟ من الذى دسه وسط حقوق الإنسان؟ وما نظريته أو فلسفته إنها محض غوغائية وصوت عال متشنج يقول (اتركوا الإنسان فى حياته الشخصية هو حر فيها) وهل هو حر فى الانتحار؟ وهل هو حر فى ممارسة الخيانة العظمى ضد جولته ووطنه ومجتمعه؟ وهل هو حر فى تناول المخدرات وممارسة الدعارة والقتل للملل والقتل للمرض والقتل بالاتفاق الى آخر هذه القائمة التى أباحها بعضه فى مجتمعاتهم. فهل إباحة بعض الناس لهذا الهراء يدخله فى حقوق الإنسان التى يجب عليه أن يلتزم بها العالم كله؟ إن أول شروط حقوق الإنسان أن يكون متفقا عليها.

5- ومصيبة أخرى هى عقوبة الإعدام التى يراد نفيها وإلغاؤها، وهى تحتاج منا الى نظر وتأن حيث إن الإعدام بضماناته ووضعه هو حق من حقوق الإنسان فإن فلسفة العقوبة بنيت على ردع المجرم والقضاء على الجريمة والضمانات والشروط الموضوعة تكفى لتحقيق ذلك ونظرية القصاص فى الشريعة الإسلامية التى تمكن من العفو من أهل القتيل، فنشأ القصاص لتهدئة بالهم وإصلاح ذات البين أكثر تطورا من الناحية الإنسانية من عقوبة الإعدام بالكلية كما ينادى به الصوت العالى غير المؤسس على نظر صحيح ولا حتى فلسفة واضحة إنما هو اعتداء فى نهايته على حقوق الإنسان.

نسأل الله ألا تكون حقوق الإنسان مشجبا يعلق عليه كل أحد ثقافته وشهواته وأموره الشخصية فحقوق الإنسان أمر مهم وخطير ولابد أن ننزله من الحجر إلى البشر وأن نسعى فيما اتفقنا عليه بدلا من المهاترات التى لا تقبل عقلا ولا قلبا.

الأهرام 5 فبراير 2005

ليست هناك تعليقات: