الاثنين، 26 مايو 2008

حروف المعاني‏..‏ الأثر والتعلق


بقلم‏:‏ د‏.‏ علي جمعة
مفتي الديار المصرية

تكلمنا في المقالة السابقة عن الفلسفة اللغوية وعلمنا الفرق بين حروف المباني‏,‏ وحروف المعاني‏,‏ ورأينا أن فهم فلسفة حروف المعاني هذه ينقل الإنسان إلي أعماق أخري‏,‏ وترتقي بتعامله مع التراث الذي كتب بالعربية ـ وعلي يد فقهاء لغة مدركين لفلسفتها إلي آفاق عالية‏,‏ حتي يجد الإنسان وكأنه قد انفتح علي نور بعد الظلام‏..‏ لأن الانبهار الشديد بالقرآن ـ الذي يجب أن يتمتع به المؤمن ـ يأتي من إدراكه وفقهه لمجموعة من القواعد الأساسية‏,‏ أولاها إدراك فلسفة اللغة وفلسفة الحروف‏.‏ وقد أدرك ابن هشام هذه المسألة‏,‏ وأن اللغة العربية يمكن أن يكون لها مدخل من حروف المعاني‏,‏ فألف كتابا ماتعاً أسماه منع اللبيب عن كتب الأعاريب‏:‏ أي دعك من كتب النحو والإعراب هذه وتعال نفهم العربية جيدا بطريق أخري‏. وهو كتاب يجعل المدخل لفهم العربية قضية حروف المعاني‏.‏

ثم هناك قضية الفارق بين الأثر وبين المعني في الحرف‏:‏ والأثر هو ما يصنعه الحرف بما بعده من حالات الإعراب‏(‏ الجزم‏,‏ النصب‏,‏ الجر‏)..,‏ فهناك عشرون حرفا من التسعين تجر ما بعدها وتسمي حروف الجر‏:‏

هاك حروف الجر وهي‏:‏ من‏,‏ إلي، حتي‏,‏ خلا‏,‏ حاشا‏,‏ عدا‏,‏ في‏,‏ عن‏,‏ علي، من‏,‏ منذ‏,‏ رب‏,‏ اللام‏,‏ الكاف‏,‏ واو‏,,‏ تا‏,‏
والباء‏,‏ والكاف‏,‏ لعل‏,‏ متي.
وهناك حروف أخري تنصب وتسمي حروفا ناصبة‏,‏ كأن تنصب المبتدأ وترفع الخبر علي خلاف‏(‏ كان‏)‏ وأخواتها‏,‏ وهي‏:‏
لإن‏,‏ أن‏,‏ ليت‏,‏ لكن‏,‏ لعل‏,‏كان‏,‏ عكس مال كان من عمل
أما كان وأخواتها فترفع المبتدأ وتنصب الخبر‏.‏
ترفع كان مبتدأ اسما‏,‏ والخبر تنصبه‏,‏ كـ كان سيدا عمر.

هذه الحروف أيضا مقسمة إلي أقسام‏:‏ منها ما يدخل علي الفعل ومنها ما يدخل علي الاسم ومنها ما يدخل علي كل منهما‏,‏ ومنها ماله أ ثر ومنها ما ليس له أثر‏,‏ ومنها ماله معني واحد ومنها ما له أثر من معني أو وظيفة‏.‏ فــهل لا أثر لها‏,‏ ومعناها أو وظيفتها الاستفهام‏,‏ وتدخل علي الفعل والاسم‏,‏ وفي من حروف الجر باعتبار الأثر‏,‏ ومن حروف الظرفية باعتبار المعني‏,‏ ولا تدخل إلا علي الاسم‏,‏ ولم من حروف الجزم باعتبار الأثر‏,‏ وهي تنفي باعتبار المعني‏,‏ وتدخل علي الفعل فقط‏.‏

ولكل حرف استعمالاته الممكنة ولا يمكن استعماله في غيرها‏,‏ فلا يصح أن نأتي بحرف مثل‏(‏ الكاف‏)‏ للاستفهام‏,‏ لأن الكاف لا تستعمل للاستفهام‏,‏ ولا يمكن أن نستعمل الحرف‏(‏ في‏)‏ للسببية؟

والحرف يستعمل في معني معين بشكل مكثف أو أكثر تداولا‏,‏ ثم بصورة أقل قد يستعمل في معان أخري‏,‏ فالباء ـ مثلا ـ هي في الأصل للسببية‏,‏ أما عبارة‏(‏ ببدر‏)‏ التي جاءت فيها للظرفية فهي قليلة‏,‏ ولذلك ليس هناك سوي هذا المثال‏.‏
فهل يمكن أن يستعمل اللفظ أو الحرف في معنيين مختلفين حقيقة؟ نعم‏,‏ وهذا ما يسمي بالمشترك‏,‏ حيث يكون معنياه علي الحقيقة وليس فيه مجاز‏,‏ وسوف نتعرض له لاحقا‏.‏

التعـــــلق

هذه الحروف حروف معان‏,‏ بمعني أنها مرتبطة في التكوين للجملة العربية بفعل‏.‏ وهذا ينقلنا إلي شئ آخر‏.‏ فنحن حتي الآن نتكلم في المفرد‏,‏ أي في الألفاظ‏,‏ في الحروف‏,‏ مبان ومعان‏,‏ كألفاظ وحروف مفردة‏,‏ لكن عندما تتحول إلي التركيب في جملة فإنها تتحول إلي قصة أخري‏,‏ لابد من الوقوف عليها من أجل الفهم الأعمق الذي نحن بسبيله‏.‏ هذه الحروف ـ في التركيب ـ لابد أن تتعلق بفعل أوما يقوم مقام الفعل‏,‏ سوف نري ـ لاحقا أيضا ـ لماذا الفعل أو ما يقوم مقام الفعل؟ وما هو الذي يقوم مقام الفعل في الواقع المعيش؟ إنه منطق أتوا به من التجربة الخارجية‏,‏ حتي أصبحت اللغة كأنها كائن حي في نموها وفي تفاعلها‏.‏
فكل حرف له فعل مختص به‏,‏ هذه أول حقيقة‏,‏ فالأفعال نوعان‏:‏ فعل يتعدي إلي المفعول ويرتبط به مباشرة‏,‏ وفعل يرتبط بالمفعول عن طريق حرف‏,‏ وهذا النوع الثاني ـ الذي يسمي الفعل اللازم ـ فيه لكل فعل حرف‏,‏ أو قل لابد لكل حرف من فعل‏.‏

ومن ثراء اللغة وعمقها ما يسمي بالتضمين والإضمار‏:‏ أي إنهم قد يستعملون أحيانا حرفا آخر من الفعل وليس الحرف الخاص به‏,‏ وهم يعنون بذلك أن هذا الفعل قد امتلأ بفعل آخر وأصبح أمامي فعلان‏:‏ فعل أنطق به وفعل آخر أضمنه مع معني الفعل الأول‏.‏ من أين أتي إدراكي لهذا الفعل الآخر الكامن ؟ جاء من الحرف‏.‏
يقول ربنا سبحانه وتعالي‏:‏ وإذا خلوا إلي شياطينهم‏(‏ البقرة‏:14)‏ وبالبحث في اللغة نجد أن خلا ترتبط بحرف‏(‏ الباء‏)‏ وليس‏(‏ إلي‏),‏ وفي الحديث‏(‏ لا يخلون رجل بامرأة‏)(‏ رواه مسلم‏)‏ وهو في كلام العرب وشعرهم قد استقر علي ذلك‏.‏ فكأن أصل القول هو‏:‏ وإذا خلو بشياطينهم فماذا عن‏(‏ خلوا إلي‏)‏؟

الحقيقة أن الفعل قد تشبع بفعل آخر يأتي معه الحرف‏(‏ إلي‏)‏ وهو‏(‏ الاطمئنان‏)‏ لأن مما يصلح في هذا السياق‏(‏ اطمأن إلي‏)‏ وبالتالي فالعبارة تكون عند فكها‏:‏ وإذا خلوا باطمئنان إلي شياطينهم قالوا إنا معكم من أين جئت بالاطمئنان ؟ من الحرف‏.

الأهرام- الاثنين 23 أبريل 2007

ليست هناك تعليقات: