مفتي الديار المصرية
تكلمنا في المقالة السابقة عن الفلسفة اللغوية وعلمنا الفرق بين حروف المباني, وحروف المعاني, ورأينا أن فهم فلسفة حروف المعاني هذه ينقل الإنسان إلي أعماق أخري, وترتقي بتعامله مع التراث الذي كتب بالعربية ـ وعلي يد فقهاء لغة مدركين لفلسفتها إلي آفاق عالية, حتي يجد الإنسان وكأنه قد انفتح علي نور بعد الظلام.. لأن الانبهار الشديد بالقرآن ـ الذي يجب أن يتمتع به المؤمن ـ يأتي من إدراكه وفقهه لمجموعة من القواعد الأساسية, أولاها إدراك فلسفة اللغة وفلسفة الحروف. وقد أدرك ابن هشام هذه المسألة, وأن اللغة العربية يمكن أن يكون لها مدخل من حروف المعاني, فألف كتابا ماتعاً أسماه منع اللبيب عن كتب الأعاريب: أي دعك من كتب النحو والإعراب هذه وتعال نفهم العربية جيدا بطريق أخري. وهو كتاب يجعل المدخل لفهم العربية قضية حروف المعاني.
ثم هناك قضية الفارق بين الأثر وبين المعني في الحرف: والأثر هو ما يصنعه الحرف بما بعده من حالات الإعراب( الجزم, النصب, الجر).., فهناك عشرون حرفا من التسعين تجر ما بعدها وتسمي حروف الجر:
هاك حروف الجر وهي: من, إلي، حتي, خلا, حاشا, عدا, في, عن, علي، من, منذ, رب, اللام, الكاف, واو,, تا,
والباء, والكاف, لعل, متي.
وهناك حروف أخري تنصب وتسمي حروفا ناصبة, كأن تنصب المبتدأ وترفع الخبر علي خلاف( كان) وأخواتها, وهي:
لإن, أن, ليت, لكن, لعل,كان, عكس مال كان من عمل
أما كان وأخواتها فترفع المبتدأ وتنصب الخبر.
ترفع كان مبتدأ اسما, والخبر تنصبه, كـ كان سيدا عمر.
هذه الحروف أيضا مقسمة إلي أقسام: منها ما يدخل علي الفعل ومنها ما يدخل علي الاسم ومنها ما يدخل علي كل منهما, ومنها ماله أ ثر ومنها ما ليس له أثر, ومنها ماله معني واحد ومنها ما له أثر من معني أو وظيفة. فــهل لا أثر لها, ومعناها أو وظيفتها الاستفهام, وتدخل علي الفعل والاسم, وفي من حروف الجر باعتبار الأثر, ومن حروف الظرفية باعتبار المعني, ولا تدخل إلا علي الاسم, ولم من حروف الجزم باعتبار الأثر, وهي تنفي باعتبار المعني, وتدخل علي الفعل فقط.
ولكل حرف استعمالاته الممكنة ولا يمكن استعماله في غيرها, فلا يصح أن نأتي بحرف مثل( الكاف) للاستفهام, لأن الكاف لا تستعمل للاستفهام, ولا يمكن أن نستعمل الحرف( في) للسببية؟
والحرف يستعمل في معني معين بشكل مكثف أو أكثر تداولا, ثم بصورة أقل قد يستعمل في معان أخري, فالباء ـ مثلا ـ هي في الأصل للسببية, أما عبارة( ببدر) التي جاءت فيها للظرفية فهي قليلة, ولذلك ليس هناك سوي هذا المثال.
فهل يمكن أن يستعمل اللفظ أو الحرف في معنيين مختلفين حقيقة؟ نعم, وهذا ما يسمي بالمشترك, حيث يكون معنياه علي الحقيقة وليس فيه مجاز, وسوف نتعرض له لاحقا.
التعـــــلق
هذه الحروف حروف معان, بمعني أنها مرتبطة في التكوين للجملة العربية بفعل. وهذا ينقلنا إلي شئ آخر. فنحن حتي الآن نتكلم في المفرد, أي في الألفاظ, في الحروف, مبان ومعان, كألفاظ وحروف مفردة, لكن عندما تتحول إلي التركيب في جملة فإنها تتحول إلي قصة أخري, لابد من الوقوف عليها من أجل الفهم الأعمق الذي نحن بسبيله. هذه الحروف ـ في التركيب ـ لابد أن تتعلق بفعل أوما يقوم مقام الفعل, سوف نري ـ لاحقا أيضا ـ لماذا الفعل أو ما يقوم مقام الفعل؟ وما هو الذي يقوم مقام الفعل في الواقع المعيش؟ إنه منطق أتوا به من التجربة الخارجية, حتي أصبحت اللغة كأنها كائن حي في نموها وفي تفاعلها.
فكل حرف له فعل مختص به, هذه أول حقيقة, فالأفعال نوعان: فعل يتعدي إلي المفعول ويرتبط به مباشرة, وفعل يرتبط بالمفعول عن طريق حرف, وهذا النوع الثاني ـ الذي يسمي الفعل اللازم ـ فيه لكل فعل حرف, أو قل لابد لكل حرف من فعل.
ومن ثراء اللغة وعمقها ما يسمي بالتضمين والإضمار: أي إنهم قد يستعملون أحيانا حرفا آخر من الفعل وليس الحرف الخاص به, وهم يعنون بذلك أن هذا الفعل قد امتلأ بفعل آخر وأصبح أمامي فعلان: فعل أنطق به وفعل آخر أضمنه مع معني الفعل الأول. من أين أتي إدراكي لهذا الفعل الآخر الكامن ؟ جاء من الحرف.
يقول ربنا سبحانه وتعالي: وإذا خلوا إلي شياطينهم( البقرة:14) وبالبحث في اللغة نجد أن خلا ترتبط بحرف( الباء) وليس( إلي), وفي الحديث( لا يخلون رجل بامرأة)( رواه مسلم) وهو في كلام العرب وشعرهم قد استقر علي ذلك. فكأن أصل القول هو: وإذا خلو بشياطينهم فماذا عن( خلوا إلي)؟
الحقيقة أن الفعل قد تشبع بفعل آخر يأتي معه الحرف( إلي) وهو( الاطمئنان) لأن مما يصلح في هذا السياق( اطمأن إلي) وبالتالي فالعبارة تكون عند فكها: وإذا خلوا باطمئنان إلي شياطينهم قالوا إنا معكم من أين جئت بالاطمئنان ؟ من الحرف.
الأهرام- الاثنين 23 أبريل 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق