بقلم:د. علي جمعة
مفتي الديار المصرية
يقول ربنا سبحانه وتعالي:( وإذا خلوا إلي شياطينهم)[ البقرة:14] وبالبحث في اللغة نجد أن خلا ترتبط بحرف( الباء) وليس ( إلى), وفي الحديث ( لا يخلون رجل بامرأة)[ رواه مسلم] وهو في كلام العرب وشعرهم قد استقر علي ذلك. فكأن أصل القول هو: وإذا خلوا بشياطينهم, فماذا عن( خلوا إلى)؟
الحقيقة أن الفعل قد تشبع بفعل آخر يأتي معه الحرف( إلى) وهو( الاطمئنان) لأن مما يصلح في هذا السياق( اطمأن إلى) وبالتالي فالعبارة تكون عند فكها: وإذا خلوا باطمئنان إلى شياطينهم قالوا إنا معكم. من أين جئت بالاطمئنان؟ من الحرف( إلى).
هناك فهم أعمق للخلو. ولو لم أكن أعرف إزاءها قاعدة التضمين ( تضمين فعل آخر يعبر عنه حرف), لم أكن لأصل إلى هذا المعني العميق الذي يصور حالة نفسية من العناد، حالة من النية المبيتة، من استقرار النفاق في قلوبهم باعتباره أمرا مطمأنا إليه لا رجعة فيه. هذا يعطيني أحكاما وتصورات أخري غير تلك المفهومة من مجرد أن أحدهم خلا بآخر. وكل ذلك في كلمة واحدة، بل في حرف واحد هو( إلى).
ومن التعلق في التركيب أيضا نجد ( بسم الله الرحمن الرحيم)، حيث نجد حرف( الباء)، ونعتقد تلقائيا أن هذا الحرف سيكون متعلقا بفعل، فأين الفعل هنا؟.. غير موجود! إذن لابد أن أقدره أي أتخيله، ويأتي هنا نوع من أنواع الوعي والفهم العميق للمناسبة التي لابد فيها أن أقدر شيئا غير موجود أمامي، وهذا ما يسمونه( الإضمار). وما الذي يكشف لي ذلك ويدفعني إليه؟ إنها القاعدة التي ذكرناها: إنه لابد لكل حرف في اللغة العربية أن يتعلق بفعل. فأين الفعل؟.. ما المناسب؟
يمكن أن يكون التقدير عاما غير محدد المجال: نبدأ أو أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم، ويمكن أن يكون تقديرا خاصا محدد المجال: أقرأ أو تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وقد يكون التقدير بالفعل أبدأ، أقرأ، أو بما يقوم مقام الفعل كالمصدر مثلا: ابتدائي أو قراءتي باسم الله. وقد يكون المقدر مقدما: أبدأ باسم الله, أو يكون مؤخرا: باسم الله أبدأ. ثمانية احتمالات. وهذه الاحتمالات الثمانية أتخير منها الأرجح والأنسب.
إذن الحروف لها قصة كبيرة أخري. إننا ينبغي ألا نقف فقط عند أثر الحرف، ولا حتي عند وظيفته، بل ينبغي أيضا أن نبحث في سائر قضايا اللفظ: قضايا الاشتقاق، وقضايا الاشتراك، وقضايا الحقيقة والمجاز، بل نبحث أيضا في الجملة: التركيب والسياق والسباق واللحاق وغيرها. وما هذا الاستعراض إلا محاولة لاستفزاز العقل المعاصر لارتياد هذه الرحلة الضرورية.
أول أحوال اللفظ الاشتقاق:
عندما جمعنا الكلام العربي وجدناه غالبا ما يتكون من ثلاثة حروف. بالطبع وجدنا بعضا من الكلمات التي تتكون من حرفين ومن حرف مثل الحروف( و, أو), لكن الكلمة في الأغلب أصلها ثلاثة حروف. ووجدنا عندنا ثمانية وعشرين حرفا نريد أن نكون منها كلمات من ثلاثيات.( أي كل كلمة ثلاثة حروف)، فإنه بالتباديل والتوافيق يظهر لدينا نحو خمسمائة مليون احتمال لكلمات.. هذا في إمكانية أن أكون ثلاثيات. لكن ما ورد إلينا من لسان العرب لا يزيد عن ثمانين ألف جذر لغوي، والباقي مهمل.. فالذي استعمله العرب من المتاح أقل بكثير جدا من الذي أهملوه، كأن المستعمل نحو اثنين في الألف (0,2%) من المتاح. هذه الثمانون ألف جذر تكون ما يقرب من مليوني كلمة إلا قليلا. فالجذر هو الثلاثي( أكل) والكلمة هي الجذر ومشتقاته:( آكل، آكل، مأكول، أكلة، مأكلة.. الخ).
وعندما نقارن العربية باللغة الانجليزية ـ باكسفورد مثلا ـ نجد أن الكلمات التي تقابل ما عندنا نحو(860) ألف كلمة غير الذي دخل في الانجليزية من الجرمانية والعربية واللاتينية وغيرها، هذا في اكسفورد الكبير( الذي يبلغ نحو خمسة وعشرين مجلدا) الكلمات في وبستر لاتزيد عن مائة ألف كلمة( كلمة لا جذر) والكلمات في( مايكل ويست) نحو أربعة وعشرين ألفا.
أما في اللغة العربية فلدينا: ثمانون ألف جذر في لسان العرب لابن منظور، وهو أكبر موسوعة موجودة في هذا الباب. منها ثلاثون ألف جذر، في المعجم الوسيط الذي اصدره مجمع اللغة العربية في مصر. وأربعون ألفا في القاموس المحيط للفيروزآبادي.
فكم جذرا من هذه الجذور يشتمل عليها القرآن الكريم؟ يحوي القرآن(1840) جذرا، أي أقل من2.5% من الجذور المستعملة في اللغة. وهذا ينبئ أن الأمر سهل شيئا ما، لأنني لو أتيت بهذه الجذور الـ(1840) وتعاملت معها بهذا العمق، فسوف أتمكن من فهم القرآن بعمق أكثر، وأتمكن ـ مع بعض قواعد المستويات المختلفة للفهم ـ أن أفهم فهما آخر.
ومن ناحية أخري، فإنه بعد الجذر تأتي الفروع، والفروع تسمي المشتقات، والتفريع يسمي الاشتقاق، وهذا الاشتقاق يتم علي قواعد وأوزان فيما يسمي بالصرف أو التصريف. وهذه الأوزان لها معان ودلالات عامة في كل الكلام. فالوزن يمكن أن يستعمل لقضية أو معان معينة مثل: ما كان علي وزن فعللة له علاقة بالصوت: صلصلة، سلسلة، بلبلة، جلجلة.. الخ، وما كان علي وزن تفاعل يعبر عن علاقة بين طرفين، مثل: تبايع، تشاجر، تقاتل.. الخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق