الاثنين، 26 مايو 2008

أثر التعلق والاشتقاق في فهم المعاني


بقلم‏:‏د‏.‏ علي جمعة
مفتي الديار المصرية

يقول ربنا سبحانه وتعالي‏:(‏ وإذا خلوا إلي شياطينهم‏)[‏ البقرة‏:14]‏ وبالبحث في اللغة نجد أن خلا ترتبط بحرف‏(‏ الباء‏)‏ وليس‏ (‏ إلى‏),‏ وفي الحديث‏ (‏ لا يخلون رجل بامرأة‏)[‏ رواه مسلم‏]‏ وهو في كلام العرب وشعرهم قد استقر علي ذلك‏.‏ فكأن أصل القول هو‏:‏ وإذا خلوا بشياطينهم‏,‏ فماذا عن‏(‏ خلوا إلى‏)‏؟

الحقيقة أن الفعل قد تشبع بفعل آخر يأتي معه الحرف‏(‏ إلى‏)‏ وهو‏(‏ الاطمئنان‏)‏ لأن مما يصلح في هذا السياق‏(‏ اطمأن إلى)‏ وبالتالي فالعبارة تكون عند فكها‏:‏ وإذا خلوا باطمئنان إلى شياطينهم قالوا إنا معكم‏.‏ من أين جئت بالاطمئنان؟ من الحرف‏(‏ إلى‏).‏

هناك فهم أعمق للخلو‏.‏ ولو لم أكن أعرف إزاءها قاعدة التضمين ‏(‏ تضمين فعل آخر يعبر عنه حرف‏),‏ لم أكن لأصل إلى هذا المعني العميق الذي يصور حالة نفسية من العناد‏، حالة من النية المبيتة‏، ‏ من استقرار النفاق في قلوبهم باعتباره أمرا مطمأنا إليه لا رجعة فيه‏.‏ هذا يعطيني أحكاما وتصورات أخري غير تلك المفهومة من مجرد أن أحدهم خلا بآخر‏.‏ وكل ذلك في كلمة واحدة‏، بل في حرف واحد هو‏(‏ إلى‏).

ومن التعلق في التركيب أيضا نجد‏ (‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏)، حيث نجد حرف‏(‏ الباء‏)، ونعتقد تلقائيا أن هذا الحرف سيكون متعلقا بفعل‏، فأين الفعل هنا؟‏..‏ غير موجود‏!‏ إذن لابد أن أقدره أي أتخيله‏،‏ ويأتي هنا نوع من أنواع الوعي والفهم العميق للمناسبة التي لابد فيها أن أقدر شيئا غير موجود أمامي‏،‏ وهذا ما يسمونه‏(‏ الإضمار‏).‏ وما الذي يكشف لي ذلك ويدفعني إليه؟ إنها القاعدة التي ذكرناها‏:‏ إنه لابد لكل حرف في اللغة العربية أن يتعلق بفعل‏.‏ فأين الفعل؟‏..‏ ما المناسب؟

يمكن أن يكون التقدير عاما غير محدد المجال‏:‏ نبدأ أو أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم‏، ويمكن أن يكون تقديرا خاصا محدد المجال‏:‏ أقرأ أو تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ وقد يكون التقدير بالفعل أبدأ‏، أقرأ‏، ‏ أو بما يقوم مقام الفعل كالمصدر مثلا‏:‏ ابتدائي أو قراءتي باسم الله‏.‏ وقد يكون المقدر مقدما‏:‏ أبدأ باسم الله‏,‏ أو يكون مؤخرا‏:‏ باسم الله أبدأ‏.‏ ثمانية احتمالات‏.‏ وهذه الاحتمالات الثمانية أتخير منها الأرجح والأنسب‏.‏

إذن الحروف لها قصة كبيرة أخري‏.‏ إننا ينبغي ألا نقف فقط عند أثر الحرف‏، ولا حتي عند وظيفته‏، بل ينبغي أيضا أن نبحث في سائر قضايا اللفظ‏:‏ قضايا الاشتقاق‏، وقضايا الاشتراك‏، وقضايا الحقيقة والمجاز‏، بل نبحث أيضا في الجملة‏:‏ التركيب والسياق والسباق واللحاق وغيرها‏.‏ وما هذا الاستعراض إلا محاولة لاستفزاز العقل المعاصر لارتياد هذه الرحلة الضرورية‏.‏

أول أحوال اللفظ الاشتقاق‏:‏

عندما جمعنا الكلام العربي وجدناه غالبا ما يتكون من ثلاثة حروف‏.‏ بالطبع وجدنا بعضا من الكلمات التي تتكون من حرفين ومن حرف مثل الحروف‏(‏ و‏,‏ أو‏),‏ لكن الكلمة في الأغلب أصلها ثلاثة حروف‏.‏ ووجدنا عندنا ثمانية وعشرين حرفا نريد أن نكون منها كلمات من ثلاثيات‏.(‏ أي كل كلمة ثلاثة حروف‏)، فإنه بالتباديل والتوافيق يظهر لدينا نحو خمسمائة مليون احتمال لكلمات‏..‏ هذا في إمكانية أن أكون ثلاثيات‏.‏ لكن ما ورد إلينا من لسان العرب لا يزيد عن ثمانين ألف جذر لغوي‏،‏ والباقي مهمل‏..‏ فالذي استعمله العرب من المتاح أقل بكثير جدا من الذي أهملوه‏، كأن المستعمل نحو اثنين في الألف ‏(0,2%)‏ من المتاح‏.‏ هذه الثمانون ألف جذر تكون ما يقرب من مليوني كلمة إلا قليلا‏.‏ فالجذر هو الثلاثي‏(‏ أكل‏)‏ والكلمة هي الجذر ومشتقاته‏:(‏ آكل‏،‏ آكل‏، مأكول‏،‏ أكلة‏، مأكلة‏..‏ الخ‏).‏

وعندما نقارن العربية باللغة الانجليزية ـ باكسفورد مثلا ـ نجد أن الكلمات التي تقابل ما عندنا نحو‏(860)‏ ألف كلمة غير الذي دخل في الانجليزية من الجرمانية والعربية واللاتينية وغيرها‏، هذا في اكسفورد الكبير‏(‏ الذي يبلغ نحو خمسة وعشرين مجلدا‏)‏ الكلمات في وبستر لاتزيد عن مائة ألف كلمة‏(‏ كلمة لا جذر‏)‏ والكلمات في‏(‏ مايكل ويست‏)‏ نحو أربعة وعشرين ألفا‏.‏

أما في اللغة العربية فلدينا‏:‏ ثمانون ألف جذر في لسان العرب لابن منظور‏، وهو أكبر موسوعة موجودة في هذا الباب‏.‏ منها ثلاثون ألف جذر‏،‏ في المعجم الوسيط الذي اصدره مجمع اللغة العربية في مصر‏.‏ وأربعون ألفا في القاموس المحيط للفيروزآبادي‏.‏

فكم جذرا من هذه الجذور يشتمل عليها القرآن الكريم؟ يحوي القرآن‏(1840)‏ جذرا‏، أي أقل من‏2.5%‏ من الجذور المستعملة في اللغة‏.‏ وهذا ينبئ أن الأمر سهل شيئا ما‏، لأنني لو أتيت بهذه الجذور الـ‏(1840)‏ وتعاملت معها بهذا العمق‏، فسوف أتمكن من فهم القرآن بعمق أكثر‏، وأتمكن ـ مع بعض قواعد المستويات المختلفة للفهم ـ أن أفهم فهما آخر‏.‏
ومن ناحية أخري، فإنه بعد الجذر تأتي الفروع‏، والفروع تسمي المشتقات‏،‏ والتفريع يسمي الاشتقاق‏، وهذا الاشتقاق يتم علي قواعد وأوزان فيما يسمي بالصرف أو التصريف‏.‏ وهذه الأوزان لها معان ودلالات عامة في كل الكلام‏.‏ فالوزن يمكن أن يستعمل لقضية أو معان معينة مثل‏:‏ ما كان علي وزن فعللة له علاقة بالصوت‏:‏ صلصلة‏، سلسلة‏،‏ بلبلة‏،‏ جلجلة‏..‏ الخ‏،‏ وما كان علي وزن تفاعل يعبر عن علاقة بين طرفين‏،‏ مثل‏:‏ تبايع‏،‏ تشاجر‏،‏ تقاتل‏..‏ الخ‏.‏

الأهرام- 30 أبريل 2007

ليست هناك تعليقات: