الجمعة، 23 مايو 2008

أزمة الدانمارك المقال الاول لشيخ الاسلام علي جمعة


بقلم الدكتور على جمعة

مفتى الديار المصرية

بمناسبة معرض الكتاب, والأزمة الحاصلة الآن بين العالم الإسلامى وبين الغرب للإساءة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, أردت أن أكتب شيئا حول الفرق بين حرية الرأى وحرية التعبير, وعلاقة ذلك بالمبدأ الديمقراطى, وبالإسلام.

فليس فقط الدين مختلفا, والعقلية مختلفة, والتاريخ مختلفا, والثقافة مختلفة, بل أيضا التناول مختلف, ورأيت أن فتح هذا الباب فى غاية الأهمية, ونحن ندعو إلى بناء جسور الحوار والتفاهم بين البشر, وأن هذه الاختلافات فى لغة الحوار, وفى المفاهيم تعد عقبة شديدة تهدم كل ما نبنى, وتعطل كلما انطلقنا, وتغبش الهدف الذى نريد أن نصل إليه.

وكنت أتمنى أن تكون المساحة التى أكتب فيها اليوم أكبر من ذلك, حتى أستطيع الوصول الى عقل القارئ بصورة

متكاملة عن هذه القضية الحساسة ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يناله.

1- كتاب ” الديمقراطية فى أمريكا” وهو من جزئين تأليف ألكسى توكفيل, وترجمة وتعليق الأستاذ أمين مرسى قنديل, طبع عالم الكتب, وطبع فيها ثلاثة طبعات آخرها سنة 1991, وكانت هذه الترجمة عن الطبعة السادسة عشرة, التى كتبها وعلق عليها أندرية جاين, وحظى هذا الكتاب بتصديق من الدكتور محسن مهدى, أستاذ الدراسات العربية بجامعة هارفرد, وهو كتاب مهم للغاية, فقد ألفه صاحبه فى أوائل القرن التاسع عشر بالفرنسية, ونشر فى أمريكا سنة 1862 بترجمة إنجليزية, ثم تراه ينشر حتى يومنا هذا, ولذلك فهو من قبيل الكتب الأساسية الشارحة لتلك الأصول التى نبحث عنها لفهم لغة الآخر, ومكونات عقليته, وهو الأمر اللازم لتحليل المضمون وقراءة الأحداث, وأهم من ذلك كله كيفية التعامل. معرض الكتاب ذكرنى بهذا الكتاب , ولا أدرى إذا كان موجودا في الأسواق أم أنه قد نفدت نسخه, لكنه ذكرنى أيضا بكثير من الكتب الأساس, التى يجب علينا أن نطلع عليها, بعد أن أصبحنا قرية واحدة أو فى بحر واحد نشعر بالأمواج فيه سويا وبدرجة واحدة.

2- فى ذلك الكتاب يقول إن أساس الديمقراطية هو السعى إلى المساواة, وإن هذا يحدث مشكلة يواجهها كهنة الديمقراطية والداعين إليها مع الحرية ومفهومها , فهناك حرية الرأى والإعتقاد, وهناك حرية التعبير , وأن حرية الرأى والاعتقاد مكفولة لكل أحد منذ مذهب التجاريين, وكلام آدم سميث “دعه يعمل دعه يمر” وأن هذا يقتضى تلك القضية, وهو ما لا نجد فيه بأسا فى الدين الإسلامى, الذى قرر حرية العقيدة فى أجلى صورها, وأخر المحاسبة عليها إلى يوم القيامة, وليس فى الحياة الدنيا, فقال تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف : 29],وقال سبحانه {لا إكراه فى الدين} [البقرة :256],وقال {فما أرسلناك عليهم حفيظا} [ألنساء:80 ]. أما حرية التعبير فسوف تتقاطع مع عقائد الآخرين من جهة ومع المساواة من جهة أخرى, وإذا كانت هذه مشكلة عند كهنة الديمقراطيين من أول القرن التاسع عشر, فالعجيب أنها ما زالت مشكلة ونحن فى القرن الواحد والعشرين.

بالرغم من أنهم قرروا بوضوح فى كتبهم فقالوا: إن هناك رؤيتين للحرية, الأولى مرفوضة: وهى ترى التحرير من القيود والضوابط جميعها, بحيث يستطيع أن يفعل الإنسان كل ما يريد, وهو الأمر الذى يحول الاجتماع البشرى إلى فوضى عارمة لا يمكن تصورها, فضلا عن قبولها, والثانية: ترى أن الحرية تعنى استقلال الإرادة والحرية فى التعبير بما يتلائم مع الاجتماع البشرى, والالتزام بالضوابط التى يتفق عليها جماعة البشر كالضوابط الدينية والأخلاقية, والعرفية التى يتصالح عليها المجتمع, والحرية بهذا المنظور توجه على أنها الوجه الأخر من المسئولية , فقبل أن يعلم الإنسان أنه يتمتع بالحرية,يعلم أنه مسئول عن تلك الحرية وتلك الاختيارات والأقوال والأفعال أمام المجتمع البشرى الذى يعيش به.

وبذلك يتبين لنا أن تقييد حرية الفرد من مقتضيات قيام المجتمع الإنسانى, خاصة مع تشابك المصالح واختلاف الأهواء, وتظل الحرية معنى نسبيا يتفاوت بتفاوت الزاوية التى ينظر إليها حتى لو تحددنطاقها, وأعطيت وصفا معينا (سياسيا أو اقتصاديا أو دينيا.. إلخ), فقد يكون المقصود الحرية من قيد معين بالمعنى السياسى أو الحرية بقصد تحقيق غرض معين بالمعنى اجتماعى.

3- بعدما تسافلت الصحيفة الدنمركية ونشرت ما نشرت من الإساءة إلى سيد الأكوان صلى الله عليه وسلم, رأينا صحيفة نرويجية تفعل ذلك ثم فى فرنسا, بدعوى أنهم يريدون اختبار هذه المسألة, ولكنهم عرضوها بطريقة سازجة فجة, وليست بالطريقة نفسها التى تكلم عنها ألكسيس توكفيل الفرنسى الأصل فى كتابه المشار إليه.

وهذا يبين لنا أن الرصانة والتفكير المستقيم قد انسحب عند جمهور الغوغائيين, وهى سمة من سمات العصر, نسأل الله اللطف بنا فيها.

4- حرية التعبير عند فقهاء المسلمين, حرية ملتزمة لا يجوز العدوان على مقدسات الآخرين, حتى لو عبدوا الوثن, قال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} [الأنعام:108] وقال تعالى فى صفات عباد الرحمن {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان:63] وقال تعالى {وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة:83] وقال تعالى {فاصفح الصفح الجميل . إن ربك هو الخلاق العليم. لا تمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجنا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين . وقل إنى أنا النذير المبين.كما أنزلنا على المقتسمين. الذين جعلوا القرآن عضين . فوربك لنسألنهم أجمعين. عما كانوا يعملون. فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين, إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون. ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون. فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 85-99].

وهذه الآيات يجب أن تكون أساس التعامل فى هذه الأزمة, لأنها هى الإشارات الربانية المعصومة من الهوى والزلل والقصور والتقصير, يجب علينا أن نتأملها وأن نستخرج منها قاعدة لإدارة الأزمات.

يتبع المقال الثاني…

الأهرام 6 فبراير 2006

ليست هناك تعليقات: