الجمعة، 23 مايو 2008

أزمة الدانمارك المقال الثاني لشيخ الاسلام علي جمعة



بقلم‏:‏ د‏.‏ علي جمعة

مفتى الديار المصرية

وها قد أكدت الأحداث الأليمة صحة رؤيتنا فى المقالة السابقة لوجوب استخلاص قاعدة لإدارة الأزمات, فإذا بنا نرى من يحرق السفارات فى ثورة عاطفية جامحة استوجب الاعتذار من بعضنا, وفى هذا ما لا يخفى من إضعاف قضيتنا ومن التفريط فى أى مكاسب يمكن أن نكون قد توصلنا إليها فى شهور عدة.

وهيا بنا مرة أخرى نتجاوز الأحداث الأليمة, لأننا فى الحقيقة ننظر الى المستقبل ونريد أن نؤسس ادارة للأزمات تشتمل على محاولة تجنبها أصلا, وعلى منعها قبل حدوثها.

1- والتفكير المنطقى يجعلنا ندرس الحالة الراهنة ونحاول أن نلتمس أسباب هذة الأزمة بشئ من الانصاف وأرجو ألا تمر كلمة بصورة عابرة, بل هى مكون من مكونات العقل المسلم, يقول الله تعالى{ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة:8] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “أبدأ بنفسك, ثم بمن تعول” رواه مسلم وابن حيان, ويقول “يبصر أحدكم القذاة فى عين أخيه وينسى الجذع فى عينه” رواه ابن حبان فى صحيحه, وسنبدأ برؤية القذاة فى عين الآخر, ثم بعد ذلك ننتقل الى جذع النخلة الذى فى أعيننا.

2- مناهج التعليم فى الغرب تشوه صورة الإسلام والمسلمين سواء فى التاريخ الاسلامى أو التشريع أو العقيدة أو الواقع, أو فى مصادر الإسلام, بصورة تولد الكراهية عند الأطفال الغربيين للإسلام والمسلمين, ولقد قام البروفسور ( عبد الجواد فلاتورى)-رحمه الله تعالى- ومعه مجموعة بحثية بدراسة مفردات تلك الصورة المشوهة للاسلام والمسلمين فى المناهج الدراسية فى الغرب خاصة فى ألمانيا, وكان نتاج تلك الدراسة ثمانية مجلدات حصر فيها كل هذه الصور, وطبعتها له جامعة (كولن) بألمانيا فى أواخر الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات, وهى موجودة حتى الآن تباع فى الأسواق, ثم جعل لها ملخصا باللغة العربية, ويمكن اعتماد هذه الدراسة العلمية التى انبثقت من الواقع فى مطالبة الغرب والاتحاد الأوروبى, بوجوب تصحيح صورة الإسلام والمسلمين فى المناهج التعليميه الغربية, وهكذا سيسرى الى أمريكا أيضا ثم الى سائر العالم.

وهذا التصحيح قد بذلت فيه محاولات عدة لكنها باهتة, مما أدى الى ترسيخ الصورة السيئة فى أذهان الغربيين وهو ما يخالف كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان, وكل القوانين الدولية التى استقرت على عدم التمييز العنصرى أو العرقى أو الدينى, وقامت علاقتها على أساس من حرية العقيدة والعمل والانتقال وحرية الرأى.

3- ومن القذاة التى فى أعينهم بعض القوانين سيئة السمعة التى تحاصر المسلمين فى عقائدهم أو عبادتهم, وأخرها ما حدث فى فرنسا فى قضية الحجاب, وينبغى الدعوة إلى تنقية هذه القوانين لأنها تخالف دساتير هذه البلاد, وذلك عن طريق تحريك الدعوى القضائية والسياسية في هذا المجال.

4- وبخصوص الحالة الدانمركية فإن القانون الدنماركى ينص فى مادته رقم140 على أنه (فى حال قيام أى شخص بالسخرية أو الاستهزاء العلنى بتعاليم أو مبادئ أى شخصية دينية معترف بها رسميا يحكم عليه بالغرامة أو عقوبة الحبس لمدة قد تصل الى أربعة أشهر) كما تنص المادة 266ب على الآتى:

أ- فى حالة قيام أى شخص بنشر أو السعى إلى نشر جملة أو قول يهدد أو يهين أو يشوه سمعة أو يسب جماعة من الناس على أسس تمس عرقهم أو لونهم أو جنسيتهم أو جذورهم العرقية أو معتقداتهم أو جنسهم يحكم عليه بالغرامة أو عقوبة الحبس لمدة قد تصل الى عامين.

ب- عند توزيع العقوبات, يؤخذ فى الاعتبار صفة المؤسسة الناشرة كأحد عوامل اثارة الفتنة. فاذا رفع المسلمون دعوى إلى القضاء الدانمركى فى أزمة الرسوم فرفض القاضى الاستماع , فأنه يفعل ذلك لأحد أمرين, لأنه لا يعترف بأن الإسلام دين, وهو مايخالف الحالة الدانمركية وإما أن يكون منكر للعدالة, وهى جريمة فى القانون الدولى فتأمل.

5- وكذلك من مكونات القذاة فى عينهم قضية العزل والتهميش للجماعات المسلمة, وهى فى مقابلة قضية الاندماج, وهو موضوع متشعب جدير بالدراسة تلعب فيه التفرقة العنصرية دورا كبيرا, كما أنه أيضا تلعب فيه ثقافة المسلمين دورا سلبيا مقابلا.

6- ومن القذاة أيضا عدم السماح بأى جزء أو مساحة من الإعلام حتى يعرض المسلمون أنفسهم, كما أتيح لهم شئ من ذلك ولو بصورة قليلة فى استراليا, حيث سمح لهم بإنشاء الصحف والإذاعات وبمساحات فى الإعلام بكافة وسائله تمكنهم من أن يشرحوا أنفسهم, وهذا يهيئهم لعملية الاندماج ويذيب كثيرا من الثلوج التى ينشئها التعصب والتمييز.

ان عدد المسلمين فى الدانمارك أكثر من 200 ألف دانمركى, بعضهم من الدانمركيين الأصليين وأغلبهم من المهاجرين وطبقا لسجلات الأزهر الشريف ومنذ 2002 وحتى نهايى سنة 2005 أسلم من دولة الدنمارك وحدها من السكان الأصليين نحو أربعين شخصا , وهو عدد كبير بالنسبة لدولة لا يتجاوز عدد سكانها خمسة ملايين.

7- يجب على المسلمين أن يستفيدوا من هذه المحن, بنقلة نوعية تؤدى إلى معيشتهم بصورة أكثر مشاركة فى الحضارة الإنسانية, وبمستقبل أكثر استقرارا وأمنا لهم وللعالم كله, ومن أجل ذلك ومن خلال التفكير العقلى المنطقى, يجب عليهم أن يستعملوا كل الوسائل المتاحة لهم فنذكر المنظمات التى تقوم الآن بمحاولات دولية لاستصدار القوانين وقرارات لحماية المسلمين من العدوان بما نصت عيه المادة 20 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية من أنه ( تمنع بحكم القانون كل دعوى للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية والتى من شأنها أن تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف.

وأكدت الجمعية العامة للامم المتحدة فى القرار رقم 59 (د-1) المؤرخ 14 ديسمبر 1946 من أن (أحد العناصر التى لا غنى عنها لحرية الإعلام توافر الارادة والقدرة على عدم اساءة استعمالها, والالتزام الأدبى بتقصى الوقائع دون تعرض, ونشر المعلومات دون سوء قصد).

هذه هى القذاة فإنها قذاة ضخمة تحتاج الى عمل كثير فما هى إذن جذع النخلة الذى فى أعيننا.

يتبع…

الأهرام 13 فبراير 2006

ليست هناك تعليقات: