
بقلم:د. علي جمعة
مفتي الديار المصرية
سافرت الأسبوع الماضي إلي لندن لحضور اجتماع بين الحكومة البريطانية والمسلمين, وكان الاجتماع بحضور مستر توني بلير رئيس الوزراء البريطاني مع ممثلين من نحو 35 دولة إسلامية، اجتمعنا معه في الصباح في قصر رئاسة الوزراء بحضور ما لا يزيد علي عشرة أشخاص يمثلون الاتجاهات المختلفة، ولمدة تزيد على الساعة، ورأيته حريصا كل الحرص إلى أن يستمع إلى الجميع وأن يسجل ما يسمع بكل دقة حتى كون أمامه أكثر من عشر ورقات، واستأذن بعدها في الانصراف لكي يعد الكلمة التي سوف يلقيها أمامنا في المؤتمر في قصر( لانكستر هاوس).
وفي هذا اللقاء كان حريصا على أن يبين حقيقة يؤكدها أنه من الجائز أن نختلف معه اختلافا بينا في مدي صواب أو خطأ قراراته خاصة الخارجية منها، وكان يشير بوضوح إلى الوجود البريطاني في العراق وأفغانستان,، إلا أنه من الخطأ في رأيه أن نجعل الدين هو المحرك لهذا القرار، وهو الدافع لمثل هذه الحروب، وهنا تدخل الدكتور مصطفى سيرتش رئيس الديانة في البوسنة، وقال: إننا نود ذلك، لكن في بعض الأحيان لا نفهم أن يكون الدين قد ظهر فجأة لرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب دينه، فرد عليه مستر بلير بأنه غير موافق إطلاقا إلى أن تتسع شروط العضوية في الاتحاد الأوروبي أكثر مما وضعت له; ولأنني لست رجل سياسة فإنني شعرت أنها تخلص دبلوماسي لم ينف بصورة قاطعة الاعتراض، ولكن هكذا عالم اليوم.
وكانت مداخلتي في هذا الاجتماع الصباحي تعرض ما سبق أن قمت به منذ سنوات بعرض فكرة البروتوكول الذي يرعى شئون أهل الأديان المختلفة داخل الدولة الحديثة، والذي سبق أن تكلمت عنه هنا في جريدة الأهرام بعد عودتي من لندن حينئذ( مقالة: كنت في لندن/2005)، ولخصت لمستر بلير فكرة هذا العقد الاجماعي ـ إن صح التعبير ـ والذي كنت عرضته للمسلمين فقط واقترحت البارونا سايمونز حينئذ أن يكون لكل الأديان، واستحسنت الفكرة، والذي يتلخص في وجوب مراجعة مناهج التعليم لتنقيتها من كل أنواع العنصرية أو ازدراء الأديان خاصة الإسلام,، وإعطاء المعلومات الصحيحة للتاريخ الإسلامي، وكذلك وضع ميثاق شرف للإعلام في علاقته مع المسلمين، وكذلك وضع أسقف لقضايا القوانين التي تسهل الحياة على المسلمين، والتي وفي نفس الوقت تساعد على اندماجهم في مجتمعاتهم وخدمة أوطانهم، وكذلك قضايا المرجعية، وإعداد الدعاة من البريطانيين أنفسهم ليس تحت فكرة الإسلامات المتعددة التي يطرحها بعض المستشرقين، وإنما تحت فكرة مرونة التشريع الإسلامي,، وقدرته علي تلبية احتياجات العصر، ومواكبة الأحداث، دون الرغبة أو الإلحاح في تذويب الهوية الإسلامية، أو طمسها، أو محاولة الصدام معها، فهناك وسائل كثيرة نستطيع بها أن نجعل تلك الهوية مصدر خير ونفع للمجتمع، وليس مصدر قلق وإزعاج ثم صدام، وأن مؤسسة الأزهر ومصر تشعر بالمسئولية التي توجب عليها المساهمة والمساعدة في هذا المجال.
قال لي مستر بلير: إن كل ما قلته صحيح، لكنني أردفت القول: بأننا نعمل ببطء، وإذا كنا نكرر الكلام بعد سنوات ثلاث، فإن هذا يعد تمكينا للتطرف، وعدم مراعاة طبيعة العصر الذي نعيش فيه.
بعد ذلك انتقلنا إلى المؤتمر، واستمعنا إلى ثلاث كلمات; الأولى: للأمير تشارلز، والثانية: لمستر بلير، والثالثة: للسيد شوكت عزيز رئيس وزراء باكستان. أما كلمة الأمير والسيد شوكت فكانت منقولة بالتسجيل، وأما مستر بلير فقد حضر وألقاها.
أما كلمة الأمير تشارلز، فقد أكد فيها احترام الإسلام وحضارته، ووجوب الإسراع في مزيد من التفاهم والتعاون بين الغرب والمسلمين، خاصة أن هذا المؤتمر يقوم به مركز دراسات الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام التابع لجامعة كمبردج( حديث النشأة)، والذي يقوم عليه الدكتور ديفيد فورد، المتخصص الأكبر في علم اللاهوت المسيحي، وهذا المركز يشترط أن يقدم هذه الأديان ويقوم بدراستها أصحابها والمؤمنون بها حتي يكون الصوت من الداخل، وليس من الخارج، وحتى يتم التفهم الحقيقي دون فهم غريب أو خارجي عن أصحاب هذه الأديان وأفهام علمائها. والممثل للمسلمين في هذا المركز هو الأستاذ الدكتور عبدالحكيم ونتر البريطاني الأصل، والأستاذ المتخصص في التاريخ العثماني بجامعة كمبردج.
لقد رأيت في هذا المؤتمر مع بساطته كيف أن الجميع يهتمون بالمسائل العملية، ويفصلون بين السياسة وعلم اللاهوت، ولا يتدخلون في ثورة عامة فيها ما لا يتقنونه، بل ولا يريدون; إنما يريدون أن يصلحوا حياتهم، وأن يصلوا بمجتمعهم إلى الأمن وإلى الرفاهة.
رأيت الحكومة والمعارضة، ورأيت رئيس الوزراء الحالي والمرشح بعده مستر براون كلهم في قارب واحد يسعون لمصلحة البلاد، فتذكرت قوله تعالي:( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)[ الرعد:17] وتذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. رواه البخاري ومسلم
فاللهم علمنا، غفرانك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق