الخميس، 29 مايو 2008

المسلمون في بريطانيا 2


بقلم‏:‏ د‏.‏ علي جمعة

مفتى الديار المصرية

ألقيت كلمة في لانكستر هاوس تكونت من أربع أفكار رئيسية‏،‏ الفكرة الأولي‏:‏ رفض الإسلام للإرهاب والعنف‏;‏ رفضا أساسيا وواضحا‏،‏ لا مواربة فيه‏،‏ ولا سكوت علي مرتكبيه‏،‏ وهذه الفكرة مع بساطتها اكتشفت أنها ملتبسة بأمرين‏،‏ الأول‏:‏ اعتقاد جارف شائع عند الغربيين بأن علماء المسلمين سكتوا ولم ينكروا على الارهاب وكأنهم ضمنا يرضون به‏.‏

والثاني‏:‏ الخلط العميق بين الكفاح المسلح المشروع خاصة في فلسطين وبين مفهوم الارهاب‏.‏

وكان محل استغراب شديد أن يسمع الناس حقائق بسيطة معلومة للجميع‏،‏ لكنها ليست حاضرة في الذهن مما يكفي. من هذه الحقائق أن الإرهاب أول ما ضرب ضرب المسلمين وبلادهم قبل أن يضرب العالم‏،‏ ففي مصر قتل السادات‏،‏ وقتل رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب رحمهما الله واعتدي على رئيس الوزراء عاطف صدقي‏، ووزير الداخلية النبوي اسماعيل‏،‏ وحسن أبو باشا بالإضافة الى سلسلة من التفجيرات وقتل السياح من الأقصر إلى الأهرام الى ميدان التحرير ثم أخيرا الى طابا وشرم الشيخ ودهب بالاضافة الى السعودية والمغرب وباكستان وسلسلة طويلة لم يلتفت إليها إلا بعد‏11‏ سبتمبر‏.‏

وقد يكون هذا مشروعا لأنها ضربات لم تكن موجعة لأحد سوى بلادنا وأنفسنا‏،‏ لكن غير المشروع تجاهل تلك المؤتمرات بطول البلاد الإسلامية وعرضها بعد‏11‏ سبتمبر وقد نعت على الإرهاب وحاربته لا أحد يعرف عن هذه المؤتمرات شيئا وكنت دائما في لقاءاتي الصحفية مع الغربيين اذكر لهم هذه الحقيقة، فمنهم من يتعجب‏، ومنهم من ينكر بحسبان أنهم على اطلاع دقيق بما يصلح، والأمر ليس كذلك فهناك تقصير شديد في متابعة تلك المؤتمرات،‏ والاعتماد علي توصياتها ومقرراتها ورؤيتها‏,‏ والجديد في هذه الزيارة أن مستر بلير بدأ يتكلم عن رسالة عمان،‏ وعن مؤتمر احترام المذاهب‏،‏ ومؤتمر مكة‏،‏ ومؤتمر قبكابي بتركيا‏،‏ إذن فقد بدأ الاهتمام‏.‏

ولقد كنت تشرفت بإلقاء الكلمة الأساسية بين يدي الملك عبد الله الثاني ملك الأردن في مؤتمر احترام المذاهب،‏ والذي خرج بعد ذلك في كتاب من جمع الأمير غازي بن محمد جمع فيه كلام علماء المذاهب الثمانية باحترامها والعمل بها وعدم تكفير المسلم‏،‏ وعدم اتخاذ العنف وسيلة للحياة‏،‏ وهو الكتاب الذي صدر في طبعتين متميزتين‏،‏ اشتملت على إجماع نحو مائتي عالم من علماء المسلمين شرقا وغربا علي كلمة سواء‏،‏ وهو أمر أثار دهشة مستر بلير في كلمته‏،‏ وهو لا يتصور أن يجتمع مثل هذا العدد في أي دين كان علي رأي واحد لكنه أمكن عند المسلمين‏،‏ كما أمكن عندهم ذلك عبر التاريخ‏،‏ حتى صار الإجماع معتمدا أساسيا في فقههم‏،‏ وفهمهم للنصوص الشرعية‏.‏

وتلاه مؤتمر مكة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والذي تشرفت أيضا بحضوره‏،‏ وصدره فيه برعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز‏،‏ ما سمي بوضع الإستراتيجية العشرية لعلماء المسلمين في العالم إذن فقد بدأ العمل الذي بدأناه منذ سنوات يؤتي ثماره‏.‏

والفكرة الثانية كانت فكرة استمرار الاجتهاد في الإسلام‏، وهو الأمر الذي هو كالمُسَلمة عندنا‏،‏ لكنه أيضا لاقى عندهم قبولا شديدا تعجبت له وهذا يدل على إن فكرة إغلاق باب الاجتهاد قد روج لها‏،‏ وأصبحت كالمسلمة البدهية في عقول كثير من الناس‏، ورحم الله الإمام السيوطي،‏ الذي ألف كتابه الماتع في القرن العاشر “الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض” وعلينا إذن أن نؤكد وأن نستمر في قضية الاجتهاد‏.‏

وهناك دائرتان متميزتان وهما دائرة الخبر، ودائرة العمل‏،‏ إما دائرة الخبر الوارد في تراثنا فإنها لا تحتاج إلى كثير من الاجتهاد‏،‏ ولا يهتم بها العالم‏،‏ ولا ينبني عليها عمل‏، ولذلك فإن الإيمان بها وتقديس مفرداتها لا يؤثر في علاقتنا مع غيرنا‏،‏ ولا في تطوير حالنا مع أنفسنا،‏ والحفاظ على دائرة الخبر له فوائد كثيرة لعله ليس الآن وقت التعرض لها‏.‏

أما دائرة العمل فقد ضربت لهم مثلا بتولي المرأة القضاء‏،‏ وتوليها منصب الرئاسة‏،‏ وأمثال هذه الاجتهادات التي اجتهدناها فيما يتعلق بما يصلح عصرنا‏، وما يصلح له‏.‏

والفكرة الثالثة كانت هي فكرة المواطنة والتعايش، ولقد نبهتهم فيها على أن طائفة من الشعراء الإنجليز المسلمين قد كتبوا في أبدع ما يكون وغنيت أناشيدهم‏،‏ وطبعت في كتاب مع نوتته الموسيقية‏،‏ وهذا يدل على أن المسلمين لم يعودوا طائفة عابرة ولا جالية مستقلة‏،‏ بل هم مكون أساسي في المجتمع الإنجليزي‏،‏ وعلي ذلك فلابد إذن من فكرة المواطنة ومن التعايش‏.‏

والفكرة الرابعة كانت المرجعية،‏ والبروتوكول الذي طالما تكلمنا عليه ومدى إمكانية مساهمة الأزهر الشريف‏، باعتباره المؤسسة الأكثر قبولا من عموم المسلمين في العالم‏،‏ وباعتباره المؤسسة التي تملك تنظيمات مختلفة‏،‏ وتاريخا ممتدا عبر ألف سنة‏،‏ وتملك أيضا منهجا وتجربة وسمعة في وسطية واعتدال‏،‏ وتمثيلا صحيحا للإسلام‏.‏

لقد لاقي هذا الخطاب قبولا عاما،‏ وهذا يدل علي أننا إذا ما خاطبنا العقل الغربي بما يتفق مع مداخله ومصالحه فإنه يبادر إلى القبول والتفهم والعمل‏،‏ وأنه يجب علينا أن نبذل مزيدا من الجهد في هذا الاتجاه الصحيح وألا نشغل أنفسنا بدائرة الخبر حتى تشغلنا وتغبش علينا دائرة العمل‏.‏

الأهرام 18 يونيو 2007

ليست هناك تعليقات: