الخميس، 29 مايو 2008

العقل العلمي عند المسلمين


بقلم‏:‏د‏.‏ علي جمعة
مفتي الديار المصرية

يتميز العقل العلمي عند المسلمين بأنه حريص على تحديد مصادر المعرفة‏،‏ والتفرقة الدقيقة بين مجالاتها المختلفة‏،‏ هناك المجال الحسي كالكيمياء والطبيعة‏،‏ يختلف عن المجال العقلي كالرياضيات وهو بدوره يختلف عن المجال النقلي كشأن اللغة‏، والشريعة‏،‏ وقد تتداخل هذه المجالات كما هو الشأن في العلوم الاجتماعية والإنسانية‏،‏ ولكل مجال منهج بحثه‏،‏ وترتيب أدلته‏.‏ ويحرص العقل العلمي أيضا على تحديد طرق البحث وشروط الباحث‏،‏ وترتيب الأدلة‏،‏ والرؤية الكلية‏،‏ وعدم إهمال الجزئيات،‏ وتأصيل المسائل،‏ وتفصيلها‏،‏ ووضع المصطلحات بإزاء المفاهيم، والاعتماد على الحقائق دون الانطباعات والرغبات والأوهام‏.‏

بخلاف ذلك يكون العقل الخرافي الذي ينكر أول ما ينكر حجية المصادر، وهذا ناتج في غالب الأحيان من الجهل‏،‏ وفي بعض الأحيان من الهوى،‏ ومعرفة أن الالتزام بالمصادر سوف يكون ثقيلا على نفس المنكر‏،‏ كما أن العقل الخرافي ينكر ثانيا طرق البحث،‏ ومن هنا يختلط عنده العلم بالممارسة،‏ يعترف في ظاهر القول بالعلم ويدعو إليه، ولكنه بمفهوم آخر يقصره على المجال الحسي‏،ويجعل ما فوق الحس شيئا مختلفا وليس علما‏،‏ مرة يسميه بالإيمان ومرة يسميه بالعقل الخرافي،‏ وهذا نتيجة خطأ في تعريف العلم‏، وفي إدراك مجالاته وتطرق بحثه‏.‏

ويتميز العقل الخرافي ثالثا بإنكار التخصص‏، وإذا اعترف به بلسانه لا يعترف في عقيدته‏،‏ وحاله‏.‏ ورابعا يهرب العقل الخرافي من الأدلة‏،‏ ومن البحث عنها وفيها‏،‏ لأن ذلك يحتاج إلي علم هو يفتقده‏،‏ وإلى جهد ووقت ليس متاحا له‏، ‏ويعتمد على الشبهات والله سبحانه وتعالى يقول‏:(‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا‏)(‏ الإسراء‏:36).‏

كما أن العقل الخرافي خامسا هو عقل مجتزأ،‏ يفصل المسائل عن أصولها‏، ويفصلها أيضا عن علاقتها بغيرها‏،‏ ويفصلها عن مآلها‏,‏ ويفصلها عن دليلها‏، وهذا العقل الذي اجتزأ المسألة كثيرا ما نواجهه بمثال ذلك الذي قرأ‏:(‏فويل للمصلين‏)‏ ولم يتم وقرأ ‏(‏لا تقربوا الصلاة‏)‏ ولم يكمل،‏ وهو موجود في كل زمان ومكان‏..‏

ومن خصائص العقل الخرافي سادسا التداعي‏,‏ بتصور لزوم ما لا يلزم‏،‏ وهو ما يغبش عليه فهم المسائل‏،‏ ودراستها‏، وسابعا التعميم وهو ما يسمى بالشغب‏،‏ وفيه حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏ من قال هلك الناس فهو أهلكهم والصفة الثامنة للعقلية الخرافية‏:‏ الخلط بين المصطلحات‏،‏ التلبيس في المفاهيم إنه يشعر بلذة عظيمة عندما يمارس ذلك‏، وتغبش عليه هذه الطريقة الحقائق البسيطة الواضحة ‏(لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏) (‏ آل عمران‏:71)

وهو تاسعا يعتمد على الأوهام‏،‏ وعلى الانطباعات‏،‏ وعلى الرغبات‏،‏ ويعتمد على ما درج عليه ونشأ فيه‏، ولذلك يرى نفسه أنه هو الحق المطلق،‏ قال تعالى:(‏ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون‏)(‏ الجاثية‏:23)‏ ويقول سبحانه وتعالي‏:(‏بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون‏).

إن أسباب الاشتغال بالخرافة خاصة عند بعض الكاتبين‏،‏ وليس في عموم الناس هو تبسيط المركب‏،‏ وكذلك الاستسهال،‏ والاستهانة‏، وشيء كثير من الكبر‏، والوهم‏، وهذه الصفات صفات نقص لا تؤدي أبدا لا إلى الخير‏، ولا إلى النجاح‏،‏ ولو أنها شاعت في أوساط الباحثين‏،‏ والكاتبين لمثلت ظاهرة جد خطيرة يجب علينا جميعا أن نقاومها وأن نعيد الأمر إلى نصابه‏.‏

فإن عقلية الخرافة سوف تؤدي حتما وبلا تردد إلي السطحية التي ينهار معها البناء الفكري، والفكر المستقيم‏،‏ حيث إن البناء الفكري والفكر المستقيم لا يقوم إلا على أسس عميقة قوية‏،‏ ولا يمكن أن يقوم على وجه السطح بهذه السطحية المفرطة‏، ان العقلية الخرافية سوف تؤدي إلى التناقض‏، فمرة نوافق‏،‏ ومرة نرفض بدعوى أننا كنا جاهلين أول الأمر‏، ‏هذا التناقض لا علاقة له بتغير المواقع مع تغير الزمان أو المكان أو الأشخاص أو الأحوال أو كم المعلومات أو ظهور أهداف جديدة‏، والعقلية الخرافية تؤدي أيضا إلى شيء من الإعجاب بالرأي والتشويش علي الحق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏إذا رأيت شحا مطاعا‏،‏ وهوى متبعا،‏ ودنيا مؤثرة‏،‏ وإعجاب كل ذي رأي برأيه‏، فعليك بخاصة نفسك‏،‏ ودع عنك أمر العامة ‏(‏ رواه ابن ماجه في سننه‏).‏

وتؤدي العقلية الخرافية أيضا إلي الجهل‏,‏ وإلي العجز وعدم القدرة علي تغيير الواقع‏,‏ وهي عقلية دائمة السخرية‏,‏ والتلبيس والكذب‏,‏ والعناد‏,‏ والجدل‏,‏ وكل صفات نهي الله عنها فقال‏:(‏ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لاتعلمون‏)(‏آل عمران‏:66)‏ وقال‏:(‏ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون‏*‏ وإذا مروا بهم يتغامزون‏*‏ وإذا انقلبوا إلي أهلهم انقلبوا فكهين‏*‏ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون‏*‏ وما أرسلوا عليهم حافظين‏*‏ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏).‏

وقال سبحانه‏:(‏ويقولون علي الله الكذب وهم يعلمون‏)(‏آل عمران‏:75).‏ وقال‏:(‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏)(‏التوبة‏:107)‏ وقال‏:(‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏)(‏ الكهف‏:54).‏

وقال في شأن هذه العقلية الخرافية‏:(‏لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون‏)(‏فصلت‏:26).

وقال على لسان تلك العقلية‏:(‏قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون‏)(‏الأعراف‏:76)‏

حقا إن العقلية الخرافية مقززة ومن هنا يتولد الإرهاب الفكري‏،‏ وعدم قبول الآخر‏،‏ وعدم الاستماع بوعي لرأي يقال‏، فاللهم أجرنا في مصيبتنا‏، وإنا لله وإنا إليه راجعون‏، وليس لنا إلا أن ندعوا جميعا لهذه العقلية‏.‏

الأهرام 25 يونيو 2007

ليست هناك تعليقات: