الخميس، 29 مايو 2008

أئمتنا العلماء بقلم الدكتور علي جمعة



بقلم‏:‏ د‏.‏ علي جمعة
مفتي الديار المصرية

تميزت مصر بوجود العلماء فيها منذ الفتح الإسلامي وإلى يومنا هذا‏،‏ والعلماء المصريون كانوا حريصين دائما على العلم ومنهجه الدقيق‏،‏ وكان من كبار علماء الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص‏،‏ الذي عاش ومات في مصر‏،‏ وتميز بدقة روايته للحديث النبوي الشريف‏، وكان عبد الله من العابدين الأتقياء‏،‏ من أهل القرن الأول الهجري‏،‏ والربط بين العلم والتقوى نجده في قوله تعالى‏:(‏ واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم‏) {البقرة‏:282}

فالعلم ليس مجموعة من المعلومات فحسب‏،‏ بل هو أيضا تقوى،‏ وخوف من الله‏،‏ ونية صادقة لنفع النفس‏، وكان سيدنا عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ ليس العلم بكثرة الرواية‏،‏ ولكن العلم الخشية ‏(‏ حلية الأولياء‏،‏ وصفوة الصفوة‏)‏ وهو كلام يفتح آفاق البحث العلمي إلى أقصي الحدود بحيث لا يكون هناك قيد عليه‏،‏ وفي نفس الوقت يضع الضوابط الأخلاقية على استعمال النتائج التي توصلنا إليها من هذا البحث العلمي‏،‏ بحيث أن يكون نافعا للخلق‏،‏ معمرا للكون‏.‏

ومن الأئمة الأعلام المصريين الذين ماتوا بمصر ‏(‏ توفي سنة‏205‏ هجرية‏)‏ وساهموا في رسم المنهج العلمي وتأكيده كان الإمام الشافعي‏-‏ رضي الله تعالي عنه‏-‏ وهو الذى كان يقول‏:‏

أخي لن تنال العلم إلا بستة
سأنبيك عن تأويلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة
وصحبة أستاذ وطول زمان

وهو الذي وضع أصول الفقه‏، وأصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالا‏،‏ وكيفية الاستفادة منها‏، وحال المستفيد‏، وهي الثلاثة الأركان التي تكون أي منهج علمي لدراسة أي علم كان‏:‏ معرفة المصادر‏،‏ وطرق البحث بما تشتمل على أدوات وسياقات‏،‏ وشروط الباحث‏.‏ والمنهج العلمي بهذه النظرة كانت له مجالات مختلفة‏،‏ فهناك مجال العلوم العقلية‏، وهناك مجال العلوم الحسية التجريبية‏،‏ وهناك مجال العلوم النقلية‏،‏ وهناك مجال العلوم الشرعية‏، لكن الأمر يوصف بأنه علم عندما تحدد مصادره وطرق بحثه‏،‏ وشروط باحثه‏،‏ ومن خلال شروط الباحث نجد بيانا للعلوم المساعدة التي ينبغي أن يدركها ذلك الباحث لتصب في علمه الأصيل‏، وتخصصه الدقيق‏.

وكتاب الرسالة للإمام الشافعي جاء فتحا جديدا في هذا المضمار‏،‏ وتلخيصا للعمليات العقلية التي كان يتناقلها الطلبة عن أساتذتهم بصورة عفوية وملكات تجريبية من المعاشرة وطول العشرة والمجاورة‏، ولكن الإمام الشافعي نجح في تقعيدها وصياغتها بصورة قابلة للتعلم وللتراكم المعرفي، وللزيادة فيه‏، والانطلاق به‏.‏

وتعد عملية صياغة العمليات العقلية من أهم عمليات حفظ المجهود البشري المجهول في العلوم، أن يحول الفكر والملكة إلى صياغات علمية دقيقة قابلة للنقل والتدريس والمناقشة والزيادة والتطوير‏.‏

ثم رأينا في القرن التاسع الهجري أمير المؤمنين فى الحديث أحمد بن حجر العسقلاني‏، المتوفى سنة‏852‏ هجرية‏، والذي كان آية غريبة في الحفظ‏،‏ وفي الوصل بين المعلومات‏،‏ وفي استنباط المعاني‏، والتحرير والتحقيق‏،‏ بحيث استحق أن يسمي أميرا للمؤمنين في علم الحديث‏.‏ وألف كتابه الماتع‏ (‏ فتح الباري في شرح صحيح البخاري‏)‏ وقدم له بمقدمة طالت منه حتى بلغت مجلدين فسماها ‏(‏ هدي الساري‏)‏ ناقش فيها منهجه في التأليف‏، وعوائق هذا المنهج ومشكلاته‏، والحلول المقترحة التي قدمها‏،‏ والإشكالات التي اكتنفت صحيح البخاري مع الإجابة عنها‏، وغير ذلك من تطبيق واع للمنهج العلمي الذي تركه الأسلاف‏.

ولكن ظاهرة الإمام ابن حجر العسقلاني كشفت عن أهمية دور الأستاذ في بناء التلميذ‏،‏ وعن دور المكتبات في شيوع العلم‏، وعند دور الاهتمام بالعملية التعليمية بأركانها جميعا في الوصول إلى الرصانة‏، فلقد درس اللغة على الفيروز آبادي صاحب‏ (‏ القاموس المحيط والقاموس الوسيط فيما ذهب من لغة العرب شناطيط‏)، ولقد بلغ القاموس المحيط من الدقة والاستيعاب إلى الحد الذي أصبح معه هذا الاسم دالا على أي معجم في لغتنا المعاصرة‏،‏ فإن القاموس في أصل اللغة هو وسط البحر‏،‏ وتتلمذ ابن حجر أيضا على الإمام ولي الدين عبد الرحيم العراقي‏،‏ إمام أهل الحديث‏ (‏ توفي بمصر سنة‏806‏ هجرية‏).‏ وغيرهم كثير ذكرهم في كتابه‏ (‏ معجم السفر‏)‏ الذي يؤكد أهمية البعثات العلمية وعلى الرحلة في طلب العلم‏.‏

والملاحظ في سير هؤلاء أن المرأة كانت موجودة في حياتهم العلمية كأستاذة ذات وجود ملحوظ‏,‏ فالإمام الشافعي تذكره السيدة نفيسة‏، فتقول‏:‏ كان رجلا يحسن الوضوء وهي إشارة إلى ربط العلم بالتقوى كما قدمنا‏،‏ والإمام ابن حجر نجد في أشياخه أكثر من خمسين امرأة قد درس عليها‏.‏

ونجد في القرن الثالث عشر الإمام حسن العطار شيخ الأزهر‏،‏ وهو الذي أوصى رفاعة رافع الطهطاوي أن يصف له كل شيء يراه في فرنسا حتى يكتشف منه ما الذي ينقص الشرق‏، وكيف وصل هؤلاء كما رآهم بعينيه في الحملة الفرنسية‏،‏ إلى هذه الدقة العلمية والقوة والعسكرية‏،‏ وأرسل إليه رفاعة الطهطاوي رسائل يصف له فيها آداب المائدة، وأحوال الشاعر‏،‏ والعلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة‏،‏ وكل ما خطر في باله أن يصفه لشيخه‏.

ولقد شكل الشيخ حسن العطار حوزة علمية بالأزهر جمع فيها نخباء طلبته‏،‏ وأخذ يدرس لهم الرؤية الكلية مربوطة بالأحكام الجزئية وهي طريقة لم تكن معروفة في هذا العصر‏،‏ ومن هؤلاء الطلبة كان أشياخ الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية‏،‏ الذي كان يدرس بمنزله ‏(‏ الشفا‏)‏ لابن سينا في طبعته بالعجم في أكثر من عشرين مجلدا‏،‏ وكان يدرس أيضا‏ (‏الأوراق‏)‏ للقطب الشيرازي لكبار علماء الأزهر‏.‏

كان الشيخ بخيت آية من آيات العلم،‏ لم ينفصل عن واقعه ولا عن عصره وتولى الإفتاء من سنة ‏1914:1920‏ ميلادية ثم بعد ذلك شارك في وضع دستور‏1923‏ ميلادية‏.‏ فرحم الله الجميع وألحقنا بهم على الإيمان‏.

الأهرام 2 يوليو 2007

ليست هناك تعليقات: