
بقلم: د. علي جمعة
مفتي الديار المصرية
تميزت مصر بوجود العلماء فيها منذ الفتح الإسلامي وإلى يومنا هذا، والعلماء المصريون كانوا حريصين دائما على العلم ومنهجه الدقيق، وكان من كبار علماء الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي عاش ومات في مصر، وتميز بدقة روايته للحديث النبوي الشريف، وكان عبد الله من العابدين الأتقياء، من أهل القرن الأول الهجري، والربط بين العلم والتقوى نجده في قوله تعالى:( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) {البقرة:282}
فالعلم ليس مجموعة من المعلومات فحسب، بل هو أيضا تقوى، وخوف من الله، ونية صادقة لنفع النفس، وكان سيدنا عبد الله بن مسعود يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية ( حلية الأولياء، وصفوة الصفوة) وهو كلام يفتح آفاق البحث العلمي إلى أقصي الحدود بحيث لا يكون هناك قيد عليه، وفي نفس الوقت يضع الضوابط الأخلاقية على استعمال النتائج التي توصلنا إليها من هذا البحث العلمي، بحيث أن يكون نافعا للخلق، معمرا للكون.
ومن الأئمة الأعلام المصريين الذين ماتوا بمصر ( توفي سنة205 هجرية) وساهموا في رسم المنهج العلمي وتأكيده كان الإمام الشافعي- رضي الله تعالي عنه- وهو الذى كان يقول:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
سأنبيك عن تأويلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة
وصحبة أستاذ وطول زمان
وهو الذي وضع أصول الفقه، وأصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، وهي الثلاثة الأركان التي تكون أي منهج علمي لدراسة أي علم كان: معرفة المصادر، وطرق البحث بما تشتمل على أدوات وسياقات، وشروط الباحث. والمنهج العلمي بهذه النظرة كانت له مجالات مختلفة، فهناك مجال العلوم العقلية، وهناك مجال العلوم الحسية التجريبية، وهناك مجال العلوم النقلية، وهناك مجال العلوم الشرعية، لكن الأمر يوصف بأنه علم عندما تحدد مصادره وطرق بحثه، وشروط باحثه، ومن خلال شروط الباحث نجد بيانا للعلوم المساعدة التي ينبغي أن يدركها ذلك الباحث لتصب في علمه الأصيل، وتخصصه الدقيق.
وكتاب الرسالة للإمام الشافعي جاء فتحا جديدا في هذا المضمار، وتلخيصا للعمليات العقلية التي كان يتناقلها الطلبة عن أساتذتهم بصورة عفوية وملكات تجريبية من المعاشرة وطول العشرة والمجاورة، ولكن الإمام الشافعي نجح في تقعيدها وصياغتها بصورة قابلة للتعلم وللتراكم المعرفي، وللزيادة فيه، والانطلاق به.
وتعد عملية صياغة العمليات العقلية من أهم عمليات حفظ المجهود البشري المجهول في العلوم، أن يحول الفكر والملكة إلى صياغات علمية دقيقة قابلة للنقل والتدريس والمناقشة والزيادة والتطوير.
ثم رأينا في القرن التاسع الهجري أمير المؤمنين فى الحديث أحمد بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة852 هجرية، والذي كان آية غريبة في الحفظ، وفي الوصل بين المعلومات، وفي استنباط المعاني، والتحرير والتحقيق، بحيث استحق أن يسمي أميرا للمؤمنين في علم الحديث. وألف كتابه الماتع ( فتح الباري في شرح صحيح البخاري) وقدم له بمقدمة طالت منه حتى بلغت مجلدين فسماها ( هدي الساري) ناقش فيها منهجه في التأليف، وعوائق هذا المنهج ومشكلاته، والحلول المقترحة التي قدمها، والإشكالات التي اكتنفت صحيح البخاري مع الإجابة عنها، وغير ذلك من تطبيق واع للمنهج العلمي الذي تركه الأسلاف.
ولكن ظاهرة الإمام ابن حجر العسقلاني كشفت عن أهمية دور الأستاذ في بناء التلميذ، وعن دور المكتبات في شيوع العلم، وعند دور الاهتمام بالعملية التعليمية بأركانها جميعا في الوصول إلى الرصانة، فلقد درس اللغة على الفيروز آبادي صاحب ( القاموس المحيط والقاموس الوسيط فيما ذهب من لغة العرب شناطيط)، ولقد بلغ القاموس المحيط من الدقة والاستيعاب إلى الحد الذي أصبح معه هذا الاسم دالا على أي معجم في لغتنا المعاصرة، فإن القاموس في أصل اللغة هو وسط البحر، وتتلمذ ابن حجر أيضا على الإمام ولي الدين عبد الرحيم العراقي، إمام أهل الحديث ( توفي بمصر سنة806 هجرية). وغيرهم كثير ذكرهم في كتابه ( معجم السفر) الذي يؤكد أهمية البعثات العلمية وعلى الرحلة في طلب العلم.
والملاحظ في سير هؤلاء أن المرأة كانت موجودة في حياتهم العلمية كأستاذة ذات وجود ملحوظ, فالإمام الشافعي تذكره السيدة نفيسة، فتقول: كان رجلا يحسن الوضوء وهي إشارة إلى ربط العلم بالتقوى كما قدمنا، والإمام ابن حجر نجد في أشياخه أكثر من خمسين امرأة قد درس عليها.
ونجد في القرن الثالث عشر الإمام حسن العطار شيخ الأزهر، وهو الذي أوصى رفاعة رافع الطهطاوي أن يصف له كل شيء يراه في فرنسا حتى يكتشف منه ما الذي ينقص الشرق، وكيف وصل هؤلاء كما رآهم بعينيه في الحملة الفرنسية، إلى هذه الدقة العلمية والقوة والعسكرية، وأرسل إليه رفاعة الطهطاوي رسائل يصف له فيها آداب المائدة، وأحوال الشاعر، والعلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وكل ما خطر في باله أن يصفه لشيخه.
ولقد شكل الشيخ حسن العطار حوزة علمية بالأزهر جمع فيها نخباء طلبته، وأخذ يدرس لهم الرؤية الكلية مربوطة بالأحكام الجزئية وهي طريقة لم تكن معروفة في هذا العصر، ومن هؤلاء الطلبة كان أشياخ الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية، الذي كان يدرس بمنزله ( الشفا) لابن سينا في طبعته بالعجم في أكثر من عشرين مجلدا، وكان يدرس أيضا (الأوراق) للقطب الشيرازي لكبار علماء الأزهر.
كان الشيخ بخيت آية من آيات العلم، لم ينفصل عن واقعه ولا عن عصره وتولى الإفتاء من سنة 1914:1920 ميلادية ثم بعد ذلك شارك في وضع دستور1923 ميلادية. فرحم الله الجميع وألحقنا بهم على الإيمان.
الأهرام 2 يوليو 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق