الاثنين، 26 مايو 2008

رسالة في أدب الخلاف


بقلم: د. علـــى جمعـــة

مفتى الديار المصرية

قام بدولة الكويت منذ فترة المركز العالمي للوسطية‏,‏ والذي تولي أمانته العامة الأستاذ الدكتور عصام البشير وزير الأوقاف السوداني السابق‏,‏ وهو من المفكرين العلماء الذين لهم باع كبير‏,‏ وقبول عام في العالم الإسلامي كله‏,‏ جمع بين الأصالة والمعاصرة‏,‏ وبين الفكر المستنير‏,‏ والعلم الملتزم‏,‏ دعا إلي مؤتمر حول الإفتاء تحت عنوان منهجية الإفتاء في عالم مفتوح والذي عقد بدولة الكويت في الفترة من‏26‏ إلي‏28‏ مايو‏,‏ وحضره كثير من المفتين‏,‏ والعلماء‏, والمتخصصين‏,‏ والباحثين‏,‏ قدم فيه أكثر من عشرين بحثا تناولت الإفتاء‏,‏ ومنهاجه‏,‏ ومشكلاته مع ظهور الفضائيات وتصدر غير المتخصصين‏,‏ ومدي مؤسسة الفتوى في العالم الإسلامي‏,‏ ودور الفتوى الاجتماعي‏,‏ وغير ذلك كثير‏.‏

ولقد نجح هذا المؤتمر‏,‏ حيث حضره ممثلون من كل المذاهب الإسلامية المتبعة في عالمنا اليوم‏,‏ وتم النقاش بينهم بأسلوب هادئ‏,‏ وقلب مفتوح‏,‏ ما كنا نتصور مثله‏,‏ منذ خمسين عاما‏,‏ بل أقل من ذلك بكثير‏.

لقد بدأنا نستوعب أدب الخلاف‏,‏ ونطبقه كقيمة عملية‏,‏ وهو ما نتمناه في معالجة المسائل الدينية خاصة تلك المعروضة علي الرأي العام‏,‏ والالتزام بميثاق شرف‏,‏ يلتزم فيه الكاتب في مناقشته أو نقده بالأدب العالي‏,‏ لا بالإسفاف بالحديث‏,‏ وهذه قيمة إسلامية نراها في قوله صلي الله عليه وسلم‏:‏ إن الله عز وجل يحب معالي الأمور ويكره سفسافها‏[‏ رواه الطبراني في الأوسط والكبير‏]‏ ومن الخلق النبوي الشريف أنه لم يكن سبابا ولا لعانا ولا فاحشا ولابذيئا‏,‏ ونهانا الله عن السخرية لأنها لاتؤدي ولاتضيف إلى شيء ملموس وتغبش علي الناس الحقائق فقال‏:(‏ ياأيها الذين آمنوا لايسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ولانساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولاتلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون‏)[‏ الحجرات‏:11]‏

ولقد تلقيت رسالة من إحدى الباحثات وهي الأستاذة صفية الجفري من المملكة العربية السعودية‏,‏ التي تحمل هما في قلبها للحالة الثقافية التي نعيشها‏,‏ قالت في هذه الرسالة التي هي بعينها قد نشرت من قبل بصورة مختلفة‏,‏ حيث قالت وقد كنت كتبت في العربية نت مقالا حملته تساؤلات عن تفصيلة صغيرة في‏[‏ فقه المخالطة‏]‏ كيف يتواصل المسلم الملتزم مع المرأة غير المتحجبة‏,‏ وقد يسر الله لي أن أحمل تفصيلتي الصغيرة هذه مع تفاصيل أخري إلي فضيلة المفتي الشيخ علي جمعة في مكتبه في دار الإفتاء‏,‏ قبل شهر تقريبا‏,‏ قلت لفضيلته‏:‏ أليس غض البصر هو لأجل حق الطرف الآخر‏,‏ فإذا أسقط الطرف الآخر حقه‏,‏ جاز النظر ما لم يكن بشهوة‏,‏ وذكرت له نص ابن عابدين الحنفي‏,‏ وما جاء في الفقه الجعفري‏,‏ من عدم حرمة النظر إذا لم تكن شهوة أو فتنة‏,‏ قال لي‏:‏ هذا الفهم هو جوهر ما عليه جماهير الفقهاء‏.‏ وذكر لي أنه قد تكلم في هذه المسألة في درس له قبل مدة وجيزة‏.

كيف نتواصل مع من يخالفنا فكرا لا سلوكا فقط‏,‏ هذا فقه لم نتعلمه بعد مجتمعيا‏,‏ كنت أكتب في موقع‏(‏ مجانين‏)‏ للصحة النفسية وهو ذو توجه إسلامي‏,‏ وإذا بي أفاجأ ذات يوم بمقالة منشورة في الموقع للأستاذة بثينة كامل الإعلامية المعروفة‏,‏ تذهب فيها إلي أن الحجاب مظهر من مظاهر التمييز السلبي‏,‏ فاجأتني المقالة وكدت اتصل بصاحب الموقع ومشرفه الدكتور وائل أبوهندي أعاتبه علي نشر هذه المقالة التي تهاجم الحجاب‏,‏ ثم توقفت متأملة إلى نفسية الإقصاء التي توجه عقلي‏,‏ عندها بدأت في كتابة تعليق على كلامها وحوار وصفته صديقتي الكاتبة‏ (‏ داليا يوسف‏)‏ بالهادئ‏,‏ وتعجبت من هذا الهدوء‏,‏ أذكر أني قلت لداليا‏:‏ لم نتعود على حوار المخالفين‏,‏ لاسيما في قطعيات الدين‏,‏ نحن نحتاج فعلا إلى تعلم ذلك‏,‏ ولست أدري فعلا إن كان هدوئي هذا هو الصواب‏,‏ لكن لماذا نتشنج ونحن نعرض ما نعتقد أنه حق‏,‏ ولعل مثل هذا الهدوء يكون أكثر نفعا من مقالة حادة‏.

لقد سررت بهذا المؤتمر‏,‏ وبهذه الروح التي أراها في الشباب الذي نأمل فيه‏,‏ وهذه العقلية التي دعونا إليها‏,‏ وبدأت في الظهور عند أولادنا وبناتنا‏,‏ لقد يئسنا من أن يصل صوتنا إلى المثقفين الكبار‏,‏ فكثير منهم إلا من رحم ربي قد تكلس داخل ذاته‏,‏ ونسي أدب الخلاف وحرية الرأي‏,‏ وجلس يوزع الاتهامات يمنة ويسارا‏.‏ شكرا للمركز العالمي للوسطية‏,‏ وشكرا للباحثة صفية الجفري‏,‏ وندعو الله سبحانه وتعالى أن يغير الحال إلى أحسن حال‏.

ليست هناك تعليقات: