
بقلم:د. علي جمعة
مفتي الديار المصرية
عرفت البشرية علي مر عصورها تصرفا سلبيا وهو[ ذبح العلماء]، ولم تختص أمة بذلك، بل كانت سمة جعلت الناس ينشئون الأمثال السارية كنوع من أنواع التعبير عن الحكمة التي تتصل بالحياة، وقبل ذلك قتلوا النبيين، والمرسلين، ولكن الله سبحانه وتعالي نصرهم، وأيد هؤلاء العلماء، ونفع بهم البشرية عبر العصور.
قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}[ البقرة:87]، وعن ابن عباس قال: ذكر خالد بن سنان للنبي صلي الله عليه وسلم، فقال: ذاك نبي ضيعه قومه[ رواه الطبراني في الكبير].
ونتذكر جميعا ما حدث لجاليليو: حيث أثبت ثبات الشمس، ودوران الأرض، فاعترض عليه، ولم يحسن حينئذ بيان برهانه التام، حتى إنه وافق علي حرق كتبه، ولدينا في التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة في هذا المعنى، فقد ورد أن الإمام البخاري صاحب الصحيح الذي وصف بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله من حيث الضبط والنقل والتوثيق، قد دعا علي نفسه قبل أن يموت بأيام، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، في نزاع بينه وبين محمد بن يحيي الذهلي، حيث كانت قد اشتدت الخصومة بينهما، مما سبب له ترك المدينة، ولم يكن البخاري رحمه الله تعالي معتادا علي ذلك، فلم يتحمل لشفافيته ورقة قلبه هذا النوع من الصدام، وانسحب تاركا وراءه جهده الرصين الجبار الذي استمر هذه السنين الطوال مرجعا للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومثالا لتطبيق المنهج العلمي، وللنية الخالصة، وللهمة العالية، وأثر ذلك في بقاء الأعمال، ونفعها لأفراد الناس وجماعاتهم، ومجتمعاتهم.
وفي القرن السادس الهجري كان الشيخ عبد القادر الجيلاني تنسب إليه بعض القصص الجديرة بالاعتبار ـ وإن كنا لم نحقق توثيقها له في ذاتها ـ منها أنه كان يحضر له نحو أربعين ألفا لسماع موعظته الحسنة التي خالطت القلوب، ورفع بعض الواشين أمره إلي الحاكم بأن عبد القادر أصبح خطرا علي الناس، فإنه يأتمر بأمره أربعون ألفا، ولما استدعاه الخليفة في بغداد، وكلمه في ذلك ضحك الشيخ، وقال: أنا أظن أن معي واحدا ونصفا، ولنختبر ذلك مولاي، فأرسل غدا الشرطة أثناء الدرس بعد العصر تطلبني أمام الناس.
فأرسل الخليفة رجال شرطته، وطلبوا الشيخ بطريقة عنيفة، فر معها أكثر الحاضرين، وأصر اثنان علي أن يصحبا الشيخ، حتى إذا ما جاءوا إلي قصر الخليفة تخلف أحدهم ينتظر الشيخ عند الباب، ودخل آخر، فقال له الخليفة: ماذا حدث ؟ قال: لم يبق معي إلا كما قلت لك واحد ونصف، هذا واحد معي، والآخر خاف من الدخول فانتظر عند الباب.
وذهب الواشون وذهب عصرهم لا نعرف أسماءهم وبقي الشيخ عبد القادر عبر القرون قد أذن الله أن يجعل كلماته نبراسا يستضاء به، وهداية في الطريق إلي الله. بقي عبد القادر وفني خصومه.
وفي القرن الثالث عشر الهجري وجدنا الشيخ خالد النقشبندي وهو يربي الناس بالشريعة والحقيقة والطريقة في السليمانية بأرض العراق بعد أن بلغ الغاية في علم الشريعة، وفي تربية الناس، وجدنا الحاسدين والحاقدين يلومونه، ويتهمونه بأنه ساحر من أجل الشعبية الجارفة التي حققها، ومن أجل معقولية كلامه ومنطقه مما اضطره لأن يغادر بلاده ووطنه ويذهب إلي الشام، ويعيش بها فيربي أجيالا حتى يتوفي بدمشق، ومازال قبره ظاهرا يزار إلي الآن.
لا نعرف من هؤلاء الذين عادوا الشيخ خالد ذا الجناحين، جناح الشريعة، وجناح التربية، وكأنه سمي بذلك لأنه قد حلق بهما كالطير في سماء التقوى، وفي سماء الصفاء والنقاء، لقد ذهب ذلك العصر، وبقي الشيخ خالد النقشبندي بعلمه، وفضله، وتأثيره، وبإخلاصه، وعلو همته، وتقواه في الناس، فله كتاب في العقائد، وله رسائل جمعت في كتاب سمي( بغية الواجب في مكتوبات سيدي خالد] ولقد دافع عنه فقيه الحنفية، وعمدة المتأخرين ابن عابدين في رسالة أسماها[ سل الحسام الهندي في نصرة سيدي خالد النقشبندي] رد فيه علي معارضيه، وفند أقاويلهم الباطلة، لكن القضية تتمثل في أن ذكره قد بقي، وأن مخالفه قد فني.
وحدث مثل هذا أيضا مع الشيخ محمد عبده، فنري هجوما شرسا عليه، وكانت هناك جريدة( حمارة منيتي) تهاجم الإمام في جل أعدادها حتى كان بائع الجرائد ينادي عليها ـ كما أخبرنا بذلك مشايخنا الذين شاهدوها شفاهة ـ علي باب المزينين بالأزهر، وعند خروج الشيخ وتلامذته من درسه، ينادي البائع:( المفتي والحمارة) فكان الشيخ يبتسم ويعطيه جنيها ذهبيا ليشتري منه جريدة لا يزيد ثمنها علي عدة ملاليم، ويسكت الرجل حتى ينتهي من صرف الجنيه ذلك الثروة الكبيرة حينئذ، وبعد شهر أو شهرين يعاود النداء فيقول له الشيخ: هل نفد المال ؟ ويعطيه جنيها آخر مبتسما، وكان الشيخ يهاجم بسبب خصومة دبت بينه وبين الخديو لأنه رفض استبدال وقف له بدون مقابل، وهاجت الصحف علي الشيخ محمد عبده، فأين ذهبت ؟ وهل يسمع الناس بها ؟ وظل محمد عبده إماما له مدرسة في التجديد والإصلاح لا يزال الناس يذكرونها ويحتفلون بها حتى يومنا هذا.
من مجمل ذلك ونحوه ـ وهو أمر مطرد إلي يوم الناس هذا ـ رأينا الأمثال تقول: زامر الحي لا يطرب. ورأينا العلماء يقولون: المعاصرة حجاب.
الأهرام 16 يوليو 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق