الأحد، 1 يونيو 2008

ذبح العلماء


بقلم‏:‏د‏.‏ علي جمعة
مفتي الديار المصرية

عرفت البشرية علي مر عصورها تصرفا سلبيا وهو‏[‏ ذبح العلماء‏]، ولم تختص أمة بذلك‏،‏ بل كانت سمة جعلت الناس ينشئون الأمثال السارية كنوع من أنواع التعبير عن الحكمة التي تتصل بالحياة‏،‏ وقبل ذلك قتلوا النبيين‏،‏ والمرسلين‏، ولكن الله سبحانه وتعالي نصرهم‏،‏ وأيد هؤلاء العلماء‏، ونفع بهم البشرية عبر العصور‏.‏

قال تعالى‏:‏ {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون}‏[‏ البقرة‏:87]، وعن ابن عباس قال‏:‏ ذكر خالد بن سنان للنبي صلي الله عليه وسلم‏، فقال‏:‏ ذاك نبي ضيعه قومه‏[‏ رواه الطبراني في الكبير‏].‏

ونتذكر جميعا ما حدث لجاليليو‏:‏ حيث أثبت ثبات الشمس‏،‏ ودوران الأرض‏، فاعترض عليه‏، ولم يحسن حينئذ بيان برهانه التام‏،‏ حتى إنه وافق علي حرق كتبه‏،‏ ولدينا في التاريخ الإسلامي نماذج كثيرة في هذا المعنى،‏ فقد ورد أن الإمام البخاري صاحب الصحيح الذي وصف بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله من حيث الضبط والنقل والتوثيق‏، قد دعا علي نفسه قبل أن يموت بأيام‏، وضاقت عليه الأرض بما رحبت‏،‏ في نزاع بينه وبين محمد بن يحيي الذهلي‏،‏ حيث كانت قد اشتدت الخصومة بينهما‏، مما سبب له ترك المدينة‏، ولم يكن البخاري رحمه الله تعالي معتادا علي ذلك‏،‏ فلم يتحمل لشفافيته ورقة قلبه هذا النوع من الصدام،‏ وانسحب تاركا وراءه جهده الرصين الجبار الذي استمر هذه السنين الطوال مرجعا للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها،‏ ومثالا لتطبيق المنهج العلمي‏، وللنية الخالصة‏،‏ وللهمة العالية‏، وأثر ذلك في بقاء الأعمال‏، ونفعها لأفراد الناس وجماعاتهم‏،‏ ومجتمعاتهم‏.‏

وفي القرن السادس الهجري كان الشيخ عبد القادر الجيلاني تنسب إليه بعض القصص الجديرة بالاعتبار ـ وإن كنا لم نحقق توثيقها له في ذاتها ـ منها أنه كان يحضر له نحو أربعين ألفا لسماع موعظته الحسنة التي خالطت القلوب‏،‏ ورفع بعض الواشين أمره إلي الحاكم بأن عبد القادر أصبح خطرا علي الناس،‏ فإنه يأتمر بأمره أربعون ألفا‏،‏ ولما استدعاه الخليفة في بغداد‏، وكلمه في ذلك ضحك الشيخ‏، وقال‏:‏ أنا أظن أن معي واحدا ونصفا‏،‏ ولنختبر ذلك مولاي‏،‏ فأرسل غدا الشرطة أثناء الدرس بعد العصر تطلبني أمام الناس‏.‏

فأرسل الخليفة رجال شرطته‏،‏ وطلبوا الشيخ بطريقة عنيفة‏، فر معها أكثر الحاضرين‏، وأصر اثنان علي أن يصحبا الشيخ‏، حتى إذا ما جاءوا إلي قصر الخليفة تخلف أحدهم ينتظر الشيخ عند الباب، ودخل آخر‏،‏ فقال له الخليفة‏:‏ ماذا حدث ؟ قال‏:‏ لم يبق معي إلا كما قلت لك واحد ونصف‏،‏ هذا واحد معي،‏ والآخر خاف من الدخول فانتظر عند الباب‏.

وذهب الواشون وذهب عصرهم لا نعرف أسماءهم وبقي الشيخ عبد القادر عبر القرون قد أذن الله أن يجعل كلماته نبراسا يستضاء به‏،‏ وهداية في الطريق إلي الله‏.‏ بقي عبد القادر وفني خصومه‏.‏

وفي القرن الثالث عشر الهجري وجدنا الشيخ خالد النقشبندي وهو يربي الناس بالشريعة والحقيقة والطريقة في السليمانية بأرض العراق بعد أن بلغ الغاية في علم الشريعة‏، وفي تربية الناس‏، وجدنا الحاسدين والحاقدين يلومونه‏، ويتهمونه بأنه ساحر من أجل الشعبية الجارفة التي حققها‏،‏ ومن أجل معقولية كلامه ومنطقه مما اضطره لأن يغادر بلاده ووطنه ويذهب إلي الشام‏،‏ ويعيش بها فيربي أجيالا حتى يتوفي بدمشق‏،‏ ومازال قبره ظاهرا يزار إلي الآن‏.‏

لا نعرف من هؤلاء الذين عادوا الشيخ خالد ذا الجناحين‏،‏ جناح الشريعة‏،‏ وجناح التربية‏، وكأنه سمي بذلك لأنه قد حلق بهما كالطير في سماء التقوى، وفي سماء الصفاء والنقاء‏،‏ لقد ذهب ذلك العصر‏، وبقي الشيخ خالد النقشبندي بعلمه‏، وفضله‏، وتأثيره‏، وبإخلاصه‏، وعلو همته‏،‏ وتقواه في الناس‏، فله كتاب في العقائد‏،‏ وله رسائل جمعت في كتاب سمي‏(‏ بغية الواجب في مكتوبات سيدي خالد‏]‏ ولقد دافع عنه فقيه الحنفية‏،‏ وعمدة المتأخرين ابن عابدين في رسالة أسماها‏[‏ سل الحسام الهندي في نصرة سيدي خالد النقشبندي‏]‏ رد فيه علي معارضيه‏، وفند أقاويلهم الباطلة‏، لكن القضية تتمثل في أن ذكره قد بقي‏،‏ وأن مخالفه قد فني‏.‏

وحدث مثل هذا أيضا مع الشيخ محمد عبده‏، فنري هجوما شرسا عليه‏،‏ وكانت هناك جريدة‏(‏ حمارة منيتي‏)‏ تهاجم الإمام في جل أعدادها حتى كان بائع الجرائد ينادي عليها ـ كما أخبرنا بذلك مشايخنا الذين شاهدوها شفاهة ـ علي باب المزينين بالأزهر‏،‏ وعند خروج الشيخ وتلامذته من درسه‏، ينادي البائع‏:(‏ المفتي والحمارة‏)‏ فكان الشيخ يبتسم ويعطيه جنيها ذهبيا ليشتري منه جريدة لا يزيد ثمنها علي عدة ملاليم‏،‏ ويسكت الرجل حتى ينتهي من صرف الجنيه ذلك الثروة الكبيرة حينئذ‏،‏ وبعد شهر أو شهرين يعاود النداء فيقول له الشيخ‏:‏ هل نفد المال ؟ ويعطيه جنيها آخر مبتسما‏، وكان الشيخ يهاجم بسبب خصومة دبت بينه وبين الخديو لأنه رفض استبدال وقف له بدون مقابل‏،‏ وهاجت الصحف علي الشيخ محمد عبده‏، فأين ذهبت ؟ وهل يسمع الناس بها ؟ وظل محمد عبده إماما له مدرسة في التجديد والإصلاح لا يزال الناس يذكرونها ويحتفلون بها حتى يومنا هذا‏.‏

من مجمل ذلك ونحوه ـ وهو أمر مطرد إلي يوم الناس هذا ـ رأينا الأمثال تقول‏:‏ زامر الحي لا يطرب‏.‏ ورأينا العلماء يقولون‏:‏ المعاصرة حجاب‏.‏

الأهرام 16 يوليو 2007

ليست هناك تعليقات: