
بقلم د. على جمعة
مفتى الديار المصرية
ذكرنا في مقالة سابقة أن الكذب حرام، والكذب من الأفعال البشرية الشائعة التي حرمها الله في كل دين، ولذلك كانت من الوضوح بمكان; بحيث إن التذكير بها، هو تذكير بالمتفق عليه، لكن النفس تحتاج إلى الذكرى من حين إلى آخر.
1- أما التلبيس فهو صفة تعد كبيرة من الكبائر; لأنها تمنع أساسا من أسس الاجتماع البشري وهو التفاهم المبني أساسا على الفهم، والفهم حتى يكون صحيحا يجب أن يكون صورة صحيحة للواقع، فإذا قام أحدهم بموجب ظاهرة صوتية يتكلم كلاما يخلط فيه الحق بالباطل، فإن هذا هو التلبيس بعينه، الذي يعطل الفهم، فيعطل التفاهم، فيعطل بعد ذلك البحث عن مشترك بين البشر، فيعطل مع هذا الاتفاق والائتلاف، ويدعو إلى النفاق والاختلاف، قال تعالى: {لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}[ آل عمران:71].
2- ومن مظاهر تلبيس الحق بالباطل ذكر بعض الحقائق، وحذف بعضها الآخر بما يوجب أن يصل المعنى إلى السامع أو المتلقي على غير مراد المتكلم أو الكاتب، واجتزاء قبيح، له صور مختلفة، وضربوا له أمثالا منها اقتصار بعضهم وهو يتلو القرآن على وقف قبيح، كما لو قال: قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة}[ النساء:43] والحقيقة أن النسبة لم تتم; حيث إن الله سبحانه وتعالى قال:{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتي تعلموا ما تقولون)[ النساء:43]. أو يقول:{فويل للمصلين}[ الماعون:4].
والحقيقة أن الله سبحانه وتعالي قال:{فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون}[ الماعون:5،4].
ففي الآية الأولى اكتفى بالنسبة الظاهرية، فحول الكلام إلى نهي عن الصلاة ولم ينظر إلى النسبة الحقيقية التي تنهي المصلي أن يصلي مع غياب عقله، والتي عللت لذلك بوجوب علمه بما يقول حتى تحقق الصلاة غاياتها من كونها صلة بين العبد وربه، وفي الثانية حذف الصفة التي هي قيد في المسألة، ومع كثرة القيود يقل الموجود، فالويل إنما هو لمصل خاص يستهين بالصلاة ويتركها، ويجعلها في هامش حياته، لا في أساسها ولا في برنامجه اليومي كما هو شأن المسلمين الملتزمين بالإسلام.
ومنسوب إلى أبي نواس بيت من الشعر قد يكون قد حاول فيه أن يبرر لنفسه معصيته بما اشتهر عنه من مجون وحب لشرب الخمر:
ما قال ربك ويل للأولي سكروا
ولكن قال ويل للمصلين
وهذا نوع من أنواع تداعي التلبيس الذي نهينا عنه.
3- وإذا صار التلبيس شهوة، وفخرا، وتفاخرا بين حملة الثقافة والكتاب دل ذلك على ظاهرة سيئة رديئة تحتاج من المفكرين جميعا أن يقفوا بإزائها، وتحتاج من مراكز البحث العلمي والاجتماعي أن يتدخل العلم بمناهجه الرصينة لدراسة هذه الظاهرة قبل أن تنتشر وتستفحل، وقبل أن تصير هي العرف السائد، والثقافة العامة، بحيث لا ينكر عليها منكر، بل إن من أنكر عليها فإنه يكون قد أنكر المعروف لدى هؤلاء، فيتحول المنكر فى ذاته إلى معروف صوري، وسيظل ذلك أبدا منكرا عند الله وعند عقلاء البشر.
إن ظاهرة التلبيس في احتياجها هذا للبحث العلمي تختلف تماما عن ظاهرة الكذب; لأنها دائما تذكر حقيقة أو حقائق تغلفها بأكاذيب، ونحتاج إلى بحث أسباب هذه الظاهرة، والدوافع التي تدفع إليها وطرق علاجها، والرصد المتأني لها، وآثارها المدمرة في بناء العقلية الواعية الصحيحة.
4- ومن المعلوم أن علم العلاقات العامة قد اهتم في دراساته لأنواع الدعاية الثلاثة: الدعاية البيضاء التي لا تشتمل إلا على الحقائق، والدعاية السوداء التى تشتمل على الأباطيل بصورة خالصة، والدعاية الرمادية( إن صح التعبير) والتى تخلط بين الحقائق والأباطيل، وبالتتبع وجد أن الدعاية الرمادية أشد تأثيرا في الناس، وأن الناس أكثر استجابة لها من الدعاية البيضاء والسوداء، ولكنها بما اشتملت عليه من أباطيل تكون قد خدعت جمهورها، وإن حققت المصالح المادية من مبيعات أكثر للمنتجات.
إن هذا الذي تقرر في علم العلاقات العامة ليس مقصورا فقط على المنتجات المادية، بل أيضا يشمل الدعاية للمنتجات الفكرية، وكما أن المنتجات الحسية مضبوطة بضابط الاستهلاك الذي أصبح سمة من سمات العصر، والذي بني أساسا على نظرية العقد، وعلى زيادة الأرصدة في البنوك، وعلى الأرباح المادية بالدرجة الأولى، فإن المنتجات الفكرية كذلك ضبطت بضابط الاستهلاك وسرى هذا إلى حياتنا الثقافية والفكرية.
5- فدعوتي إذن هي أن نستعمل مناهج علم العلاقات العامة، والمعلومات التي توصل إليها، وأن ندرس ظاهرة الدعاية الرمادية في حياتنا المعاصرة، في مجاليها المادي والفكري حتى تحقق ما أرشدنا الله إليه من التمسك بالبيضاء، والنهي عن السوداء.
إن الدعاية الرمادية تشبه إلى حد كبير في المعني النفاق، الذي يلبس بين الإيمان والكفر، فالمؤمن واضح في دعواه، وفي إيمانه يعلنه أمام الناس، ويصدق به أمام نفسه، والكافر كذلك يعلن عقيدته أمام الناس وأمام نفسه من غير مواربة أو خداع، في حين أن المنافق لا تعرف له أساسا، يراوغ {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلي شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}[ البقرة:14].
فلم يكن قاسيا ولا عنيفا أن يحذر المنافقون من أن نفاقهم يستوجب أشد أنواع العقاب والعذاب{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا}[ النساء:145] والله المستعان.
الأهرام 30 يوليو 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق