الأحد، 8 يونيو 2008

والتلبيس حرام …


بقلم د. على جمعة

مفتى الديار المصرية

ذكرنا في مقالة سابقة أن الكذب حرام، والكذب من الأفعال البشرية الشائعة التي حرمها الله في كل دين‏،‏ ولذلك كانت من الوضوح بمكان‏;‏ بحيث إن التذكير بها‏،‏ هو تذكير بالمتفق عليه‏،‏ لكن النفس تحتاج إلى الذكرى من حين إلى آخر‏.‏

1- أما التلبيس فهو صفة تعد كبيرة من الكبائر‏;‏ لأنها تمنع أساسا من أسس الاجتماع البشري وهو التفاهم المبني أساسا على الفهم‏، والفهم حتى يكون صحيحا يجب أن يكون صورة صحيحة للواقع‏،‏ فإذا قام أحدهم بموجب ظاهرة صوتية يتكلم كلاما يخلط فيه الحق بالباطل‏، فإن هذا هو التلبيس بعينه‏، الذي يعطل الفهم‏، فيعطل التفاهم‏، فيعطل بعد ذلك البحث عن مشترك بين البشر‏، فيعطل مع هذا الاتفاق والائتلاف‏، ويدعو إلى النفاق والاختلاف‏، قال تعالى: {لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏}[‏ آل عمران‏:71].‏

2- ومن مظاهر تلبيس الحق بالباطل ذكر بعض الحقائق‏، وحذف بعضها الآخر بما يوجب أن يصل المعنى إلى السامع أو المتلقي على غير مراد المتكلم أو الكاتب‏، واجتزاء قبيح‏،‏ له صور مختلفة‏،‏ وضربوا له أمثالا منها اقتصار بعضهم وهو يتلو القرآن على وقف قبيح‏،‏ كما لو قال‏:‏ قال تعالى‏:{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة‏}[‏ النساء‏:43]‏ والحقيقة أن النسبة لم تتم‏;‏ حيث إن الله سبحانه وتعالى قال‏:{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتي تعلموا ما تقولون‏)[‏ النساء‏:43].‏ أو يقول‏:‏{فويل للمصلين‏}[‏ الماعون‏:4].‏

والحقيقة أن الله سبحانه وتعالي قال‏:{فويل للمصلين‏*‏ الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}[‏ الماعون‏:5،4].

‏ ففي الآية الأولى اكتفى بالنسبة الظاهرية‏،‏ فحول الكلام إلى نهي عن الصلاة ولم ينظر إلى النسبة الحقيقية التي تنهي المصلي أن يصلي مع غياب عقله‏، والتي عللت لذلك بوجوب علمه بما يقول حتى تحقق الصلاة غاياتها من كونها صلة بين العبد وربه‏، وفي الثانية حذف الصفة التي هي قيد في المسألة‏، ومع كثرة القيود يقل الموجود،‏ فالويل إنما هو لمصل خاص يستهين بالصلاة ويتركها‏، ويجعلها في هامش حياته‏،‏ لا في أساسها ولا في برنامجه اليومي كما هو شأن المسلمين الملتزمين بالإسلام‏.‏

ومنسوب إلى أبي نواس بيت من الشعر قد يكون قد حاول فيه أن يبرر لنفسه معصيته بما اشتهر عنه من مجون وحب لشرب الخمر‏:‏
ما قال ربك ويل للأولي سكروا
ولكن قال ويل للمصلين
وهذا نوع من أنواع تداعي التلبيس الذي نهينا عنه‏.‏

3- وإذا صار التلبيس شهوة، وفخرا‏،‏ وتفاخرا بين حملة الثقافة والكتاب دل ذلك على ظاهرة سيئة رديئة تحتاج من المفكرين جميعا أن يقفوا بإزائها‏،‏ وتحتاج من مراكز البحث العلمي والاجتماعي أن يتدخل العلم بمناهجه الرصينة لدراسة هذه الظاهرة قبل أن تنتشر وتستفحل‏، وقبل أن تصير هي العرف السائد‏، والثقافة العامة‏،‏ بحيث لا ينكر عليها منكر‏،‏ بل إن من أنكر عليها فإنه يكون قد أنكر المعروف لدى هؤلاء‏،‏ فيتحول المنكر فى ذاته إلى معروف صوري‏، وسيظل ذلك أبدا منكرا عند الله وعند عقلاء البشر‏.‏

إن ظاهرة التلبيس في احتياجها هذا للبحث العلمي تختلف تماما عن ظاهرة الكذب‏;‏ لأنها دائما تذكر حقيقة أو حقائق تغلفها بأكاذيب‏،‏ ونحتاج إلى بحث أسباب هذه الظاهرة‏،‏ والدوافع التي تدفع إليها وطرق علاجها‏،‏ والرصد المتأني لها،‏ وآثارها المدمرة في بناء العقلية الواعية الصحيحة‏.‏

4- ومن المعلوم أن علم العلاقات العامة قد اهتم في دراساته لأنواع الدعاية الثلاثة‏:‏ الدعاية البيضاء التي لا تشتمل إلا على الحقائق‏،‏ والدعاية السوداء التى تشتمل على الأباطيل بصورة خالصة‏، والدعاية الرمادية‏(‏ إن صح التعبير‏)‏ والتى تخلط بين الحقائق والأباطيل‏،‏ وبالتتبع وجد أن الدعاية الرمادية أشد تأثيرا في الناس‏،‏ وأن الناس أكثر استجابة لها من الدعاية البيضاء والسوداء‏، ولكنها بما اشتملت عليه من أباطيل تكون قد خدعت جمهورها‏،‏ وإن حققت المصالح المادية من مبيعات أكثر للمنتجات‏.‏

إن هذا الذي تقرر في علم العلاقات العامة ليس مقصورا فقط على المنتجات المادية‏،‏ بل أيضا يشمل الدعاية للمنتجات الفكرية‏،‏ وكما أن المنتجات الحسية مضبوطة بضابط الاستهلاك الذي أصبح سمة من سمات العصر‏، والذي بني أساسا على نظرية العقد‏،‏ وعلى زيادة الأرصدة في البنوك‏،‏ وعلى الأرباح المادية بالدرجة الأولى‏،‏ فإن المنتجات الفكرية كذلك ضبطت بضابط الاستهلاك وسرى هذا إلى حياتنا الثقافية والفكرية‏.‏

5- فدعوتي إذن هي أن نستعمل مناهج علم العلاقات العامة‏،‏ والمعلومات التي توصل إليها‏،‏ وأن ندرس ظاهرة الدعاية الرمادية في حياتنا المعاصرة‏،‏ في مجاليها المادي والفكري حتى تحقق ما أرشدنا الله إليه من التمسك بالبيضاء‏،‏ والنهي عن السوداء‏.‏

إن الدعاية الرمادية تشبه إلى حد كبير في المعني النفاق‏،‏ الذي يلبس بين الإيمان والكفر‏، فالمؤمن واضح في دعواه‏،‏ وفي إيمانه يعلنه أمام الناس‏،‏ ويصدق به أمام نفسه‏،‏ والكافر كذلك يعلن عقيدته أمام الناس وأمام نفسه من غير مواربة أو خداع‏،‏ في حين أن المنافق لا تعرف له أساسا‏،‏ يراوغ‏ {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلي شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون‏}[‏ البقرة‏:14].‏

فلم يكن قاسيا ولا عنيفا أن يحذر المنافقون من أن نفاقهم يستوجب أشد أنواع العقاب والعذاب‏{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا‏}[‏ النساء‏:145]‏ والله المستعان.

الأهرام 30 يوليو 2007

ليست هناك تعليقات: