بقلم: د. علي جمعة
مفتى الديار المصرية
يظن كثير من الناس أن قضية ختان الإناث قضية جديدة أثيرت في أيامنا هذه، وبعضهم يدعي أنها قد أثيرت بعد مؤتمر السكان بالقاهرة، والأمر ليس كذلك، فختان الإناث أثاره الشيخ رشيد رضا في مجلته المنار في سنة1904 م، حيث سأل الناس حينئذ عن وجوب الختان، فيكتب تحت عنوان وجوب الختان أو سنيته قال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع، واحتج القائلون بأنه سنة بحديث أسامة عند أحمد والبيهقي: الختان سنة في الرجال، مكرمة في النساء وراويه الحجاج بن أرطاة مدلس.
وفي سنة1951 م يرسل معالي وزير الصحة المصري إلى فضيلة العلّامة الشيخ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء، وأستاذ الشريعة بالأزهر الشريف ( والإمام الأكبر فيما بعد) يسأله عن قضية الختان، خاصة ختان الإناث، فيجيبه بجواب في28 ـ5 ـ1951م ينشره في مجلة الأزهر مجلد 23 عدد المحرم سنة1371 هـ في صفحة21, ويقول بكل وضوح: والشريعة تقرر مبدأ عاما، وهو أنه متى ثبت بطريق البحث الدقيق لا بطريق الآراء الوقتية التي تلقي تلبية لنزعة خاصة أو مجاراة قوم معينين أن في أمر ما ضررا صحيا، أو فسادا خلقيا، وجب شرعا منع ذلك العمل، دفعا للضرر أو الفساد، وإلى أن يثبت ذلك في ختان الأنثى، فإن الأمر فيه على ما درج عليه الناس، وتعوده في ظل الشريعة الإسلامية، وعلم رجال الشريعة من عهد النبوة إلى يومنا هذا، وهو أن ختانها مكرمة، وليس واجبا، ولا سنة.
ثم تكلم كلاما نفيسا بعد ذلك، لكن فيما نقلناه قاعدة مهمة، تمثل عقل الفقيه المسلم المتمكن من فقهه, وقصة هذا أنه في شهر مايو من ذات السنة أصدرت مجلة الدكتور ملحقا حول ختان البنات، سألت فيه طائفة من الأطباء عن رأيهم وما ينصحون به في هذا الموضوع، فأجمعت كلمتهم على عدم ضرورة ختان البنات، وأشاروا إلى الضرر الذي قد ينجم عن هذه العملية، لكنهم ـ والحق يقال ـ أبدوا ذلك على سبيل الرأي، ومجاراة الحضارة، وليس على سبيل المعلومة الطبية المؤكدة.
وفي مجلة لواء الإسلام في عددها الأول من السنة الخامسة الصادر يونيو1951 م ( رمضان1370 هـ) قامت المجلة بعمل استطلاع لكبار العلماء، فقال الشيخ إبراهيم حمروش عضو جماعة كبار العلماء، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر بعد كلام طويل يتعلق بسقف المعارف الشائع، والذي يرتد إلى أمور دنيانا كما أمرنا أنتم أعلم بأمور دنياكم: يجوز لها ترك الختان، ولكنها في هذه الحالة لم تقم بالمكرمة، فإذا أريد تقرير المنع من ختان المرأة، فلابد أن يعلم بطريق صحيح أن العلم يثبت أن في ختانها إضرارا بها حتى يمكن القول بالمنع. ويقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف، أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بعد كلام طويل: الذي يجب على الأطباء أن يوسعوا دائرة الاستقراء وألا يحكموا بأن ختان البنت ضار بناء على حالات فردية، وأن يقارنوا من الوجهة الصحية بين من ختنت، ومن لم تختتن، فإذا تم هذا الاستقراء وكانت النتيجة أن ختان البنت ضار بها ورأوا منعه فهذا المنع لا يعارض نصا في الدين، ولا إجماعا لفقهاء المسلمين.
ويقول محمد بك البنا، وهو من كبار العلماء أيضا بعد كلام طويل أشار فيه إلى اختلاف الأطباء، ثم قال: فإذا اشترك في ذلك عدد أكبر على النحو الذي أبديته ـ أعني على هيئة مؤتمر ـ كان البحث أتم وأوفى، والخلاصة أن المسلمين بالخيار من الناحية الدينية، وأن الأمر متروك للمصلحة، ويجب أن يبحث بحثا كافيا بمعرفة الخبراء.
وفي المجلد 24 من مجلة الأزهر، في عددها العاشر الصادر في شوال سنة 1372 هـ الموافق11 يونيو سنة 1953 يتكلم الشيخ محمد عرفة رئيس تحرير المجلة، وعضو جماعة كبار العلماء، فيقول: والعلم يرى أنه يضر بالحياة الزوجية، ويؤدي إلى انتشار المخدرات بين الرجال، فإذا ثبت كل ذلك فأمره سهل جدا، فليس على من لم تختتن من النساء من بأس، ومن اختتنت فيجب ألا ينهك هذا العضو منها، وإذا منع في مصر كما منع في بعض البلاد الإسلامية كتركيا وبلاد المغرب فلا بأس والله الموفق للصواب.
ويتبين من كل ذلك أن المسألة قديمة، يتكلم عنها الشيخ حسنين محمد مخلوف، والشيخ سيد سابق، ويعيدها الشيخ محمود شلتوت في كتابه( الفتاوى) الصادر سنة1959 م, ويذكر فيه مرة ثانية إن ختان الأنثى ليس لدينا ما يدعو إليه، وإلى تحتيمه لا شرعا ولا خلقا ولا طبا.
ويتبين كذلك أن هذا الأمر عند كبار العلماء متعلق بالمعارف الطبية اليقينية، ولما كانت المعارف الطبية السائدة في العصور الأولي تقول بنفعه، فقد قال الفقهاء: بأنه مكرمة، وكلمت مكرمة تنفي أنه واجب، وبل وأنه سنة، وتجعله عادة يمتثل الناس لمعارفهم العلمية في كل عصر، ولذلك فقد ورد في كتبنا نقلا عن الأولين بأنها مكرمة، لا لإقرارها، بل لنفي الوجوب والسنية عنها.
وتكلمنا أيضا عن أن للختان أربعة أنواع، وأن المرحلة الأولى هي التي عناها الأطباء القدماء، والذين بناء عليهم تكلم الفقهاء على أنها مكرمة، وأن هذه المرحلة الأولى هي عادة وليست من الشعائر، وهذا معنى أيضا أنها مكرمة، فهي ليست من الشريعة في شيء، ولكنها بناء على المعلومات الطبية السائدة في عصر من العصور.
ومن كل ذلك يتبين أنه يجب على الأطباء أن يعلنوا الحقائق التي قد توصل إليها بالبحث، وبالمؤتمرات العلمية، وبالقرارات التي توصلت إليها منظمة الصحة العالمية، وبما قد أتفق عليه الأطباء المختصون في هذا الشأن الآن، بحيث صار إجماعا بعلم يقيني، كما طالب علماء الشريعة منذ أكثر من نصف قرن، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ونحن إذ نتبع ما تيقن منه الطب، واستقرت عليه الكلمة، فنحن نتبع هؤلاء العلماء الذين أصلوا لنا الأصول، وتركونا على المحجة البيضاء، والحمد لله رب العالمين.
الأهرام 6 أغسطس 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق