الأحد، 8 يونيو 2008

ختان الإناث


بقلم‏: ‏د‏.‏ علي جمعة

مفتى الديار المصرية

يظن كثير من الناس أن قضية ختان الإناث قضية جديدة أثيرت في أيامنا هذه‏،‏ وبعضهم يدعي أنها قد أثيرت بعد مؤتمر السكان بالقاهرة‏، والأمر ليس كذلك‏،‏ فختان الإناث أثاره الشيخ رشيد رضا في مجلته المنار في سنة‏1904‏ م‏، حيث سأل الناس حينئذ عن وجوب الختان‏،‏ فيكتب تحت عنوان وجوب الختان أو سنيته قال ابن المنذر‏:‏ ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع‏،‏ واحتج القائلون بأنه سنة بحديث أسامة عند أحمد والبيهقي‏:‏ الختان سنة في الرجال‏،‏ مكرمة في النساء وراويه الحجاج بن أرطاة مدلس‏.‏

وفي سنة‏1951‏ م يرسل معالي وزير الصحة المصري إلى فضيلة العلّامة الشيخ محمود شلتوت عضو هيئة كبار العلماء‏،‏ وأستاذ الشريعة بالأزهر الشريف‏ (‏ والإمام الأكبر فيما بعد‏)‏ يسأله عن قضية الختان‏،‏ خاصة ختان الإناث‏،‏ فيجيبه بجواب في‏28‏ ـ‏5‏ ـ‏1951‏م ينشره في مجلة الأزهر مجلد ‏23‏ عدد المحرم سنة‏1371‏ هـ في صفحة‏21,‏ ويقول بكل وضوح‏:‏ والشريعة تقرر مبدأ عاما‏، وهو أنه متى ثبت بطريق البحث الدقيق لا بطريق الآراء الوقتية التي تلقي تلبية لنزعة خاصة أو مجاراة قوم معينين أن في أمر ما ضررا صحيا‏، أو فسادا خلقيا‏،‏ وجب شرعا منع ذلك العمل‏، دفعا للضرر أو الفساد‏، وإلى أن يثبت ذلك في ختان الأنثى‏، فإن الأمر فيه على ما درج عليه الناس‏،‏ وتعوده في ظل الشريعة الإسلامية‏، وعلم رجال الشريعة من عهد النبوة إلى يومنا هذا‏،‏ وهو أن ختانها مكرمة‏،‏ وليس واجبا‏، ولا سنة‏.‏

ثم تكلم كلاما نفيسا بعد ذلك‏، لكن فيما نقلناه قاعدة مهمة‏، تمثل عقل الفقيه المسلم المتمكن من فقهه‏,‏ وقصة هذا أنه في شهر مايو من ذات السنة أصدرت مجلة الدكتور ملحقا حول ختان البنات‏، سألت فيه طائفة من الأطباء عن رأيهم وما ينصحون به في هذا الموضوع‏،‏ فأجمعت كلمتهم على عدم ضرورة ختان البنات‏،‏ وأشاروا إلى الضرر الذي قد ينجم عن هذه العملية‏،‏ لكنهم ـ والحق يقال ـ أبدوا ذلك على سبيل الرأي‏،‏ ومجاراة الحضارة‏، وليس على سبيل المعلومة الطبية المؤكدة‏.‏

وفي مجلة لواء الإسلام في عددها الأول من السنة الخامسة الصادر يونيو‏1951‏ م‏ (‏ رمضان‏1370‏ هـ‏)‏ قامت المجلة بعمل استطلاع لكبار العلماء‏،‏ فقال الشيخ إبراهيم حمروش عضو جماعة كبار العلماء،‏ ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر بعد كلام طويل يتعلق بسقف المعارف الشائع‏،‏ والذي يرتد إلى أمور دنيانا كما أمرنا أنتم أعلم بأمور دنياكم‏:‏ يجوز لها ترك الختان‏،‏ ولكنها في هذه الحالة لم تقم بالمكرمة‏،‏ فإذا أريد تقرير المنع من ختان المرأة‏،‏ فلابد أن يعلم بطريق صحيح أن العلم يثبت أن في ختانها إضرارا بها حتى يمكن القول بالمنع‏.‏ ويقول الأستاذ عبد الوهاب خلاف‏، أستاذ الشريعة بكلية الحقوق بعد كلام طويل‏:‏ الذي يجب على الأطباء أن يوسعوا دائرة الاستقراء وألا يحكموا بأن ختان البنت ضار بناء على حالات فردية‏، وأن يقارنوا من الوجهة الصحية بين من ختنت‏،‏ ومن لم تختتن‏،‏ فإذا تم هذا الاستقراء وكانت النتيجة أن ختان البنت ضار بها ورأوا منعه فهذا المنع لا يعارض نصا في الدين‏،‏ ولا إجماعا لفقهاء المسلمين‏.‏

ويقول محمد بك البنا‏،‏ وهو من كبار العلماء أيضا بعد كلام طويل أشار فيه إلى اختلاف الأطباء‏،‏ ثم قال‏:‏ فإذا اشترك في ذلك عدد أكبر على النحو الذي أبديته ـ أعني على هيئة مؤتمر ـ كان البحث أتم وأوفى‏، والخلاصة أن المسلمين بالخيار من الناحية الدينية‏،‏ وأن الأمر متروك للمصلحة‏، ويجب أن يبحث بحثا كافيا بمعرفة الخبراء‏.

وفي المجلد ‏24‏ من مجلة الأزهر، في عددها العاشر الصادر في شوال سنة ‏1372‏ هـ الموافق‏11‏ يونيو سنة ‏1953‏ يتكلم الشيخ محمد عرفة رئيس تحرير المجلة‏،‏ وعضو جماعة كبار العلماء‏،‏ فيقول‏:‏ والعلم يرى أنه يضر بالحياة الزوجية‏،‏ ويؤدي إلى انتشار المخدرات بين الرجال‏، فإذا ثبت كل ذلك فأمره سهل جدا‏،‏ فليس على من لم تختتن من النساء من بأس‏، ومن اختتنت فيجب ألا ينهك هذا العضو منها‏، وإذا منع في مصر كما منع في بعض البلاد الإسلامية كتركيا وبلاد المغرب فلا بأس والله الموفق للصواب‏.‏

ويتبين من كل ذلك أن المسألة قديمة‏،‏ يتكلم عنها الشيخ حسنين محمد مخلوف‏،‏ والشيخ سيد سابق‏،‏ ويعيدها الشيخ محمود شلتوت في كتابه‏(‏ الفتاوى‏)‏ الصادر سنة‏1959‏ م‏,‏ ويذكر فيه مرة ثانية إن ختان الأنثى ليس لدينا ما يدعو إليه‏، وإلى تحتيمه لا شرعا ولا خلقا ولا طبا‏.‏

ويتبين كذلك أن هذا الأمر عند كبار العلماء متعلق بالمعارف الطبية اليقينية‏،‏ ولما كانت المعارف الطبية السائدة في العصور الأولي تقول بنفعه‏،‏ فقد قال الفقهاء‏:‏ بأنه مكرمة‏،‏ وكلمت مكرمة تنفي أنه واجب‏، وبل وأنه سنة‏، وتجعله عادة يمتثل الناس لمعارفهم العلمية في كل عصر‏، ولذلك فقد ورد في كتبنا نقلا عن الأولين بأنها مكرمة‏،‏ لا لإقرارها‏، بل لنفي الوجوب والسنية عنها‏.‏

وتكلمنا أيضا عن أن للختان أربعة أنواع،‏ وأن المرحلة الأولى هي التي عناها الأطباء القدماء‏،‏ والذين بناء عليهم تكلم الفقهاء على أنها مكرمة‏، وأن هذه المرحلة الأولى هي عادة وليست من الشعائر‏،‏ وهذا معنى أيضا أنها مكرمة‏،‏ فهي ليست من الشريعة في شيء‏،‏ ولكنها بناء على المعلومات الطبية السائدة في عصر من العصور‏.‏

ومن كل ذلك يتبين أنه يجب على الأطباء أن يعلنوا الحقائق التي قد توصل إليها بالبحث‏، وبالمؤتمرات العلمية‏،‏ وبالقرارات التي توصلت إليها منظمة الصحة العالمية‏،‏ وبما قد أتفق عليه الأطباء المختصون في هذا الشأن الآن‏، بحيث صار إجماعا بعلم يقيني‏،‏ كما طالب علماء الشريعة منذ أكثر من نصف قرن‏،‏ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم‏.‏

ونحن إذ نتبع ما تيقن منه الطب‏،‏ واستقرت عليه الكلمة‏،‏ فنحن نتبع هؤلاء العلماء الذين أصلوا لنا الأصول‏،‏ وتركونا على المحجة البيضاء‏،‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

الأهرام 6 أغسطس 2007

ليست هناك تعليقات: