الأحد، 1 يونيو 2008

الكذب حرام


بقلم:أ.د/ على جمعة

مفتى الديار المصرية

لابد في كل فترة أن نذكر حتى ولو كان ذلك التذكير بأمور تبدو لأول وهلة أنها بدهية‏، قال تعالي‏: {وذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين‏} الذاريات‏:55‏. ويروى أن واحدا من الخطباء ظل يحدث الناس عن الصدق‏،‏ ويحذرهم من الكذب دائما في خطبة الجمعة‏،‏ وبصورة أصابت الناس بشيء من الملل،‏ فلمدة أسابيع متتالية وهو يكرر نفس الخطبة‏، ويدعوهم إلى ترك الكذب وإلى التمسك بالصدق‏، فلما ملوا وضاقت عليهم نفوسهم حدثوه في ذلك بأنك قد كررت الأمر بالصدق‏،‏ والنهي عن الكذب‏،‏ فلم لا تنتقل إلى موضوع آخر؟ فقال لهم‏:‏ وهل تركتم الكذب حتى أترك أنا النهي عنه؟‏!‏

وهذه القصة فيها موعظة‏، وهو أن التكرار يجعل النفس تستقر على الصفة التي ندعو إليها‏، وتنفر من الصفة التي ننهى عنها‏، وهو قانون معروف في علم النفس يسمي قانون التكرار يبني عليه كثير من أساليب الإعلان والدعاية‏،‏ حتى سماه بعضهم بالتعرض التراكمي ومن جميل صفات القرآن الكريم أنه أمرنا بدراسة المعصية حتى لا نقع فيها‏،‏ قال تعالى في سورة النساء‏:{انظر كيف يفترون علي الله الكذب وكفى به إثما مبينا‏}‏ النساء‏:50‏ وانظر فعل أمر‏،‏ قد يحمل على النظر البصري في مجال المحسوس‏، وقد يحمل على النظر الاعتباري بالبصيرة والتفكر‏. ‏ودراسة مسألة الكذب قد تبحث عن واقعه‏، وأسبابه‏،‏ ودوافعه‏،‏ وطرق مقاومته‏،‏ وأنواعه‏،‏ وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج‏، ومجالات الكذب‏، وهل يصل إلى حد المرض أو إلى حد الظاهرة الاجتماعية؟ ودراسة ذلك على مستوي الأفراد وعلى مستوى الجماعات والمؤسسات‏، وعلى مستوي المجتمع‏،‏ وأوضاع هذا في مجال السياسة‏،‏ وفي مجال الأعمال والاقتصاد وفي مجال العلاقات الدولية‏، وفي مجال الإعلام ونحو ذلك‏.‏

ومن هنا اهتم المسلمون بدراسة هذه الظاهرة‏، فعرفوا الكذب،‏ وهناك مذاهب ثلاثة‏:‏ الأول يرى أن الكذب هو مخالفة الواقع‏،‏ والثاني يرى أن الكذب هو مخالفة الاعتقاد القائم بنفس المتكلم والثالث يرى أن الكذب هو مخالفة الواقع والاعتقاد معا‏.‏

وهذا المبحث موجود في علم البلاغة‏،‏ وموجود أيضا عرضا في علم المنطق‏، ولكل مذهب من المذاهب الثلاثة مشكلة في التعريف‏، فمن ذهب إلى أنه مخالفة الواقع يرى أنه يوصف بالكذب الخطأ والخطيئة‏،‏ فالخطأ يكون عن غير قصد‏،‏ والخطيئة تكون عن قصد‏.

ويبدو أن هذا هو الذي كانت تميل إليه قريش‏،‏ حيث أنها كانت تطلق الكذب على الخطأ‏، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بلغه أن سعد بن عبادة قال أثناء فتح مكة‏:‏ اليوم يوم الملحمة‏، قال‏:‏ كذب سعد‏.‏ أي أخطأ سعد‏.‏ أما المذهب الثاني الذي يرى أنه مخالفة الاعتقاد فمعناه أن الملحد إذا قال‏:‏ إن الله موجود‏، يكون كاذبا، لأنه يكون مخالفا لاعتقاده‏، وهو صدق بالاتفاق‏، والمذهب الثالث الذي يرى أن الكذب مخالفة الواقع والاعتقاد معا‏،‏ اعترض عليه بأنه يلزم منه وجود منطقة لا توصف بأنها صدق ولا كذب‏،‏ وهو مالا وجود له في اللغة العربية‏،‏ مثل أن يقول المتكلم شيئا مخالفا للواقع،‏ موافقا لاعتقاده‏، أو مخالفا لاعتقاده، موافقا للواقع‏،‏ فلا يوصف حينئذ لا بصدق ولا بكذب‏،‏ وهذا ما تأباه اللغة العربية مادام الكلام خبرا‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم‏، فيما أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه‏ (‏ كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع‏)‏ رواه مسلم فإذا بهؤلاء يشتدون في الكذب‏،‏ حتى يحولوا كل ما يتخيلون دون أي سماع لأي خبر موثق إلى وهم يعيشون فيه يظنونه الحقيقية‏،‏ فصدق عليهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏،‏ حيث يقول‏:(‏ ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا‏)‏ رواه البخاري ومسلم وابن حبان واللفظ له وانظر إلى كلمة‏(‏ يتحرى الكذب‏)‏ أي أنه يعشقه ويسر به ويتتبعه وينشئه‏، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏، واللهم أجرنا في مصيبتنا ويقول صلي الله عليه وسلم‏:(‏ وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله‏،‏ ما يظن أن تبلغ ما بلغت‏،‏ فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه‏)‏ رواه البخاري والترمذي واللفظ له وفي لفظ البخاري‏:‏ يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب وذلك لما يترتب عليها من إساءة ومن ضرر علي المستوي العام والخاص‏.‏

ولا ينبغي أن يكون انتشار الكذب مبررا لتعاطيه والتعامل معه علي أنه غير محظور‏، فالكذب قبيح رغم شيوعه في البشر‏، حتى إن آخر الأبحاث ترى أن أشد الناس التزاما بالصدق يقع في الكذب مرتين على الأقل يوميا‏،‏ ومازال الناس في الشرق والغرب ينعون على الكذب‏.‏

والابتعاد عن الكذب وذمه كان من سمات الحضارات التي أظهرت تفوقا وقيادة وريادة على مر التاريخ‏،‏ ففي حضارة أسلافنا التي قادت العالم قرونا طويلة وحضارة الغرب على ما فيها من سلبيات كان الكذب مذموما‏، بل ويمثل عندهم سواء عند السلف أو عند الغرب ـ قيمة سلبية يحاسب عليها من يرتكبها على جميع المستويات‏،‏ ويكون الكذب جريمة أكثر بشاعة إذا ما صدر من مسئول أو متصدر لخدمة الناس‏.‏

ونحن لابد علينا أن نستمر جميعا كحال الخطيب الذي بدأنا به المقال‏، نكرر‏،‏ ونزيد‏،‏ ونعيد في التحذير من الكذب‏،‏ وفي الأمر بالصدق‏، لأن الكذب مهلكة‏،‏ والصدق منجاة‏.‏

الأهرام 23 يوليو 2007


ليست هناك تعليقات: