بقلم:أ.د/ على جمعة
مفتى الديار المصرية
لابد في كل فترة أن نذكر حتى ولو كان ذلك التذكير بأمور تبدو لأول وهلة أنها بدهية، قال تعالي: {وذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين} الذاريات:55. ويروى أن واحدا من الخطباء ظل يحدث الناس عن الصدق، ويحذرهم من الكذب دائما في خطبة الجمعة، وبصورة أصابت الناس بشيء من الملل، فلمدة أسابيع متتالية وهو يكرر نفس الخطبة، ويدعوهم إلى ترك الكذب وإلى التمسك بالصدق، فلما ملوا وضاقت عليهم نفوسهم حدثوه في ذلك بأنك قد كررت الأمر بالصدق، والنهي عن الكذب، فلم لا تنتقل إلى موضوع آخر؟ فقال لهم: وهل تركتم الكذب حتى أترك أنا النهي عنه؟!
وهذه القصة فيها موعظة، وهو أن التكرار يجعل النفس تستقر على الصفة التي ندعو إليها، وتنفر من الصفة التي ننهى عنها، وهو قانون معروف في علم النفس يسمي قانون التكرار يبني عليه كثير من أساليب الإعلان والدعاية، حتى سماه بعضهم بالتعرض التراكمي ومن جميل صفات القرآن الكريم أنه أمرنا بدراسة المعصية حتى لا نقع فيها، قال تعالى في سورة النساء:{انظر كيف يفترون علي الله الكذب وكفى به إثما مبينا} النساء:50 وانظر فعل أمر، قد يحمل على النظر البصري في مجال المحسوس، وقد يحمل على النظر الاعتباري بالبصيرة والتفكر. ودراسة مسألة الكذب قد تبحث عن واقعه، وأسبابه، ودوافعه، وطرق مقاومته، وأنواعه، وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، ومجالات الكذب، وهل يصل إلى حد المرض أو إلى حد الظاهرة الاجتماعية؟ ودراسة ذلك على مستوي الأفراد وعلى مستوى الجماعات والمؤسسات، وعلى مستوي المجتمع، وأوضاع هذا في مجال السياسة، وفي مجال الأعمال والاقتصاد وفي مجال العلاقات الدولية، وفي مجال الإعلام ونحو ذلك.
ومن هنا اهتم المسلمون بدراسة هذه الظاهرة، فعرفوا الكذب، وهناك مذاهب ثلاثة: الأول يرى أن الكذب هو مخالفة الواقع، والثاني يرى أن الكذب هو مخالفة الاعتقاد القائم بنفس المتكلم والثالث يرى أن الكذب هو مخالفة الواقع والاعتقاد معا.
وهذا المبحث موجود في علم البلاغة، وموجود أيضا عرضا في علم المنطق، ولكل مذهب من المذاهب الثلاثة مشكلة في التعريف، فمن ذهب إلى أنه مخالفة الواقع يرى أنه يوصف بالكذب الخطأ والخطيئة، فالخطأ يكون عن غير قصد، والخطيئة تكون عن قصد.
ويبدو أن هذا هو الذي كانت تميل إليه قريش، حيث أنها كانت تطلق الكذب على الخطأ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بلغه أن سعد بن عبادة قال أثناء فتح مكة: اليوم يوم الملحمة، قال: كذب سعد. أي أخطأ سعد. أما المذهب الثاني الذي يرى أنه مخالفة الاعتقاد فمعناه أن الملحد إذا قال: إن الله موجود، يكون كاذبا، لأنه يكون مخالفا لاعتقاده، وهو صدق بالاتفاق، والمذهب الثالث الذي يرى أن الكذب مخالفة الواقع والاعتقاد معا، اعترض عليه بأنه يلزم منه وجود منطقة لا توصف بأنها صدق ولا كذب، وهو مالا وجود له في اللغة العربية، مثل أن يقول المتكلم شيئا مخالفا للواقع، موافقا لاعتقاده، أو مخالفا لاعتقاده، موافقا للواقع، فلا يوصف حينئذ لا بصدق ولا بكذب، وهذا ما تأباه اللغة العربية مادام الكلام خبرا.
والنبي صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ( كفي بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع) رواه مسلم فإذا بهؤلاء يشتدون في الكذب، حتى يحولوا كل ما يتخيلون دون أي سماع لأي خبر موثق إلى وهم يعيشون فيه يظنونه الحقيقية، فصدق عليهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:( ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا) رواه البخاري ومسلم وابن حبان واللفظ له وانظر إلى كلمة( يتحرى الكذب) أي أنه يعشقه ويسر به ويتتبعه وينشئه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، واللهم أجرنا في مصيبتنا ويقول صلي الله عليه وسلم:( وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه البخاري والترمذي واللفظ له وفي لفظ البخاري: يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب وذلك لما يترتب عليها من إساءة ومن ضرر علي المستوي العام والخاص.
ولا ينبغي أن يكون انتشار الكذب مبررا لتعاطيه والتعامل معه علي أنه غير محظور، فالكذب قبيح رغم شيوعه في البشر، حتى إن آخر الأبحاث ترى أن أشد الناس التزاما بالصدق يقع في الكذب مرتين على الأقل يوميا، ومازال الناس في الشرق والغرب ينعون على الكذب.
والابتعاد عن الكذب وذمه كان من سمات الحضارات التي أظهرت تفوقا وقيادة وريادة على مر التاريخ، ففي حضارة أسلافنا التي قادت العالم قرونا طويلة وحضارة الغرب على ما فيها من سلبيات كان الكذب مذموما، بل ويمثل عندهم سواء عند السلف أو عند الغرب ـ قيمة سلبية يحاسب عليها من يرتكبها على جميع المستويات، ويكون الكذب جريمة أكثر بشاعة إذا ما صدر من مسئول أو متصدر لخدمة الناس.
ونحن لابد علينا أن نستمر جميعا كحال الخطيب الذي بدأنا به المقال، نكرر، ونزيد، ونعيد في التحذير من الكذب، وفي الأمر بالصدق، لأن الكذب مهلكة، والصدق منجاة.
الأهرام 23 يوليو 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق